الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مصر تخرج من النفق

مصر تخرج من النفق






على امتداد محطات مترو الأنفاق الذى يجوب ضواحى القاهرة الكبرى بعدما شكلت خطوطه المتشعبة مدينة ضخمة أسفل القاهرة العريقة، على امتداد خطوطه تجد محطاته وقد حملت أسماء الزعماء المصريين على مدار التاريخ دلالة على الاعتزاز الرسمى والشعبى بهذا الكيان الضخم باعتباره مشروعًا قوميًا لتقديم خدمة عامة للمصريين.
بقدر هذا الاعتزاز يفترض أن يكون الإدراك لأهمية هذا الشريان الحيوى الذى لا يمكن أن يتوقف أبدا على الرغم من فداحة تكاليف الصيانة والتطوير.
 المتابع لهذا المرفق سيجد انضباطا غير مسبوق وإرادة نادرة للتطوير، فالخط الثانى أكثر تطورا من الأول والثالث أكثر تحديثا من الثانى حيث أصبحت العربات مكيفة وشبكات المحمول متاحة ويمكن التقاطها بسهولة والعربات أكثر براحا والألوان أكثر بهجة.

برغم ذلك قد تحدث أعطال بالخط الأول تحديدًا  نتيجة تعثر أعمال الصيانة فتجد بركانا بشريا قد انفجر فى وجه القاهرة ليتحول الركاب إلى حمم بشرية تصب اللعنات على وطنها الذى لم يتصد لمسئولياته فى الصيانة دون أن يتساءل أحد من أين ستأتى مبالغ الصيانة؟ وكيف سيكون الحال إذا خرج هذا المرفق من الخدمة؟!
من منطلق المثل الشعبى «أحيينى النهارده وموتنى بكره» يتعامل بعض المصريين مع هذا المرفق الذى حمل برعايته أجيالا منذ ميلادها حتى تخرجها بعد أن انطلق فى ثمانينيات القرن الماضى، لتكون الدولة المصرية قد تعاملت بالفعل مع المثل الشعبى من منطلق استجابة رسمية مسئولة بعنوان «سمعًا وطاعة النهارده وبكره وبعد بكره»، هكذا يقول الواقع هكذا يقول الفارق فى التحديث بين الخطوط الثلاثة.
 منذ ما يقرب من عشرين عاما حاولت هيئة المترو استحداث وسيلة لزيادة مواردها للإنفاق الذاتى على عملية التطوير فتم تعليق شاشات بجميع المحطات تبث مواد ترفيهية تتخللها إعلانات مدفوعة الأجر، لكن أحد الموظفين المسئولين عن تشغيل تلك الشاشات خان الأمانة بعدما سولت له نفسه المريضة بث مواد إباحية لم تخدش الحياء العام فقط بل قضت على الفكرة التى كانت موردا أساسيا لتمويل الصيانة والتطوير بفعل إيذاء المواطن لأخيه المواطن، ومنذ ذلك الحين لم يتساءل أحد عن حجم ما تكبدته الدولة لضمان منظومة صيانة لا تتوقف، ومنظومة تطوير وتوسع إلى أن وصلت إلى مرحلة الشروع  فى إنشاء الخط الرابع لتكتمل شبكة عملاقة أسفل الأرض ليس لها هدف سوى تيسير حياة المواطن.
بالنظر إلى فلسفة مرفق المترو كمشروع قومى تجده تجسيدا عمليا لمفهوم العدالة الاجتماعية الذى توفر الدولة من خلاله خدمة متميزة للطلاب وذوى الاحتياجات الخاصة وكبار السن ومحدودى الدخل ممن حصلوا على اشتراكات مخفضة وجنبتهم الوقوف فى طوابير شراء التذاكر فى كل رحلة، كان هذا يتم على مدار ما يقارب ثلاثة عقود تحملت خلالها الدولة كامل مسئوليتها الاجتماعية فى محاولة لإنقاذ المواطن من مافيا وسائل المواصلات الخاصة التى يديرها آحاد المواطنين يمارسون ابتزازا لأقرانهم من المواطنين.
 فى ظل استمرار منظومة مترو الأنفاق انتشرت ما يسمى بظاهرة التوك توك التى احتلت أعلى أسطح محطات المترو، انتظارا للمواطن الذى يستخدمها لتوصيله إلى منزله على بعد مسافة ليست بالقريبة أو البعيدة عن موقع المحطة وخلال هذه الرحلة يتعرض المواطن لخطورة الاحتكاك بسائق هذه الآلة الدخيلة على الشارع المصرى ممن يقودها مراهقون يتحدون فى أسلوب قيادة موحد يتسم بالرعونة المفرطة فضلاً عن أسوأ أنواع الموسيقى والأغانى الهابطة التى تفرض على الراكب، وفِى نهاية رحلته يدفع أضعاف ما دفعه ثمنًا لشراء تذكرة المترو لقيمة مسافة لا تتجاوز عشر المسافة المقطوعة بالمترو مشمولا برعاية الدولة ومحاط بأجواء مكيفة وبمنأى عن التأخير، الفارق أنه يخضع ويستجيب لعلاقة إذعان عرفية مع سائق التوك توك الذى ليس لديه أى نية لاحترام إنسانيته، بينما يتضرر من عقد اجتماعى واضح ومعلن تلتزم الدولة بكل بنوده المعروفة مسبقًا.
هو نفسه سائق التوك توك الذى يحصل على الوقود المدعم وعلى رغيف العيش بخمسة قروش يستخدم المترو فى مشاويره الخاصة مستمتعًا بالخدمة المكيفة وبانتظام المواعيد وبالسعر المنخفض وبرغم ذلك يعود إلى توك توكه المتروك أعلى سطح المحطة ليستكمل عملية ابتزاز وتعذيب زميله المواطن، وليس مدهشًا أن يكون الحوار الدائر بين السائق والراكب مرتكزًا على الشكوى التى لا تنقطع عن ارتفاع سعر تذكرة المترو وفِى نهاية الرحلة التوك توكية يخضع الراكب لإملاءات السائق ويدفع ما يطلب منه دون نقاش!
هو نفسه سائق التوك توك الذى لا يخضع لأى معايير فيحجب الخدمة عن المواطن إذا ما دعاه مزاجه الخاص إلى اللجوء لأحد المقاهى ليقضى وقتًا ممتعًا فى احتساء مشروب بارد أو تدخين الشيشة خاضعًا مذعنًا للأسعار التى لا تكف عن الارتفاع وفقًا لأهواء صاحب المقهى الذى يرسل أحد صبيانه لشراء خامات التشغيل مستخدمًا المترو، هنا نكتشف أن التوك توك له صاحب وللمقهى صاحب فلماذا نريد مرفقًا عامًا بلا صاحب؟!
 فى المقابل نجد أجيالا كاملة لا تعرف شيئا عن المترو إما بسبب انتمائهم لأسر ذات مستوى اجتماعى متميز حصل تميزه فى العقود الثلاثة الماضية، أو لقدرتهم على استخدام وسائل المواصلات التى أصبحت متاحة عبر تطبيقات الهواتف المحمولة بعد أن أصبحت الخدمة ميسرة بفعل الدولة التى سمحت بتلك الخدمة كما سمحت ببنية أساسية للاتصالات ولاستخدامات الفضاء الإلكترونى بأسعار متاحة للجميع وفقًا لما يمكن تسميته بالعدالة الاجتماعية الإلكترونية التى أتاحتها الدولة، وهنا أيضًا يشعر المواطن بأريحية شديدة فى التعامل ليس لانخفاض سعر الخدمة المميزة بل لأن الدولة أتاحت توفيرها ضمن منظومة تعاقدية محكمة تخضع لرقابة الدولة ولتراضى الطرفين بتلك العلاقة التعاقديّة المعروف بنودها مسبقًا.
 وإلى من ينادون بالعدالة الاجتماعية دون طرح رؤية لكيفية تحقيقها، إلى هؤلاء الذين راكموا الثروات واستقلوا أفخم السيارات وهم يتحدثون عن أوجاع المطحونين، نتوجه إليهم بالسؤال متى ستتخلون عن طبقيتكم الجغرافية؟ فتظلون تطالبون بمعدلات للنمو والتطوير بالمنطقة المركزية للعاصمة  دون مبالاة بما يحدث على ضفاف النيل على امتداده بالوجهين القبلى والبحرى؟!
بهذا المفهوم يتم التعامل مع مرفق المترو الذى تقتصر الخدمة اليومية التى يقدمها على سكان القاهرة الكبرى وضواحيها.
 هل يعلم هؤلاء حجم ما تحملته الدولة على مدار اثنين وثلاثين عامًا عندما استقر سعر التذكرة عند مبلغ خمسين قرشًا لمدة ١٠ سنوات، ثم ارتفع إلى خمسة وسبعين قرشًا لمدة ثمانى سنوات وصولا إلى جنيه لمدة اثنى عشر عامًا، تحملت خلالها الدولة حجم استثمارات قيمتها ١٨٠ مليار جنيه لأكثر من ثلاثة عقود حصلت خلالها الدولة عائدا قيمته ثمانى مليارات ومائة مليون فقط، فإذا تحدثنا عن الزيادة الجديدة سنجد أن البديل عنها هو إيقاف الخط الأول «المرج- حلوان» تمامًا لأجل غير مسمى دون مبالغة، هذه أرقام وحقائق موثقة، ولنتذكر حجم المعاناة التى تكبدها المواطن عندما عطلت محطة التحرير بفعل أحداث يناير التى قامت برغم عدم ارتفاع سعر التذكرة.
تخيل لو أن الدولة قررت التعامل بشكل غير أخلاقى مع تلك الحالة، فنفذت منظومة أعطال مصطنعة مؤقتة نتج عنها تعالى صرخات المواطنين من سوء الخدمة وتوقفها، بعدها تنطلق حملة إعلامية تروج لتدهور أوضاع المترو بسبب الخلل فى منظومة التطوير والصيانة ما يهدد بخروج كامل من الخدمة، تخيل لو استمر الوضع على مدار يومين فقط دون أن يكون المترو متاحًا، فى هذه الحالة كانت الصرخات ستكون أكثر ارتفاعًا وقد تتخذها الحكومة حينها ذريعة لرفع الأسعار من أجل الصيانة والتطوير، تخيل لو تم التعامل بهذا المنهج غير الأخلاقى فتكون النتيجة أفضل من الآن بفعل سلوك يلتف حول المواطن.
فى هذه الحاله تحديدًا قررت الدولة التعامل المباشر بشكل براجماتى وأخلاقى للتأكيد على أن عموم السياسة التى ينتهجها الرئيس عبدالفتاح السيسى تتخذ عنوانًا «الشعب فوق الشعبية» فى ظل إصرار من الرجل على أن تتحول الدولة من حالة الرئيس الشخص إلى حالة المؤسسات.
 والآن نأتي إلى الحكومة متمثلة في وزير النقل والتي نفذت ماتراه خطة إنقاذ عاجلة لمرفق المترو الذي يعد شريانًا رئيسيًا بدونه تصاب العاصمة بجلطة مرورية كارثية ، الآن نأتي لهذه الحكومة التي لم يعد أمامها سوى التصدي لمسئولياتها بإنفاذ منظومة للتطوير والصيانة والانضباط في التشغيل والتأمين ، عليها من الآن أن تبدأ على الفور بحملة نظافة تحترم المواطن الذي لايمكن استخدامه من أجل مرفق المترو فحسب بل استخدام المترو من أجل راحة وكرامة هذا المواطن .
على هذه الحكومة أن تدرك أن مصداقيتها على المحك، وأن الأبعاد الاجتماعية لمنظومة المترو أكثر عمقا من حركته المادية ، عليها أن تدرك أنه أكبر تجمع بشري سلمي حتمي يوميا ، لايجب أن تغفل الحكومة عن رقابة المواطن وتحفزه وانتظاره لنتيجة فورية تعكس حتمية وأهمية الزيادة المطلوبة.
 الآن الحكومة والدولة أمامهما فرصة ذهبية لتحويل الوضع من حالة سخط مازالت تحت السيطرة إلى حالة من التواصل مع المواطن وكسب احترامه وثقته وتقديم نموذج لدولة أخلاقية تحترم قيمتي الوقت والعمل قبل أن تطالب المواطن باحترامها.
وعلى النخبة التي لم تعد تتعامل مع هذا المرفق أن تكف عن الاستخدام السياسي لمشاعر وآلام المواطن ولقضايا الملف الاقتصادي لتستخدمها مباشرة في الاتجاه إلى رأس الدولة موجهين اللوم لأنفسهم وإبداء الندم لا لشىء إلا لأنهم مازالوا لايعلمون ما يريدون، وإن ظنوا أنهم يعلمون مالايريدون، الآن عليهم أن يتساءلوا لماذا ثاروا على مبارك الذي لم يرفع تذكرة المترو ولم يقترب من الدعم؟!لماذا ثاروا على مرسي العياط الذي لايعلم أساسًا أن في مصر مرفقا للمترو ، هو لايعرف أن هناك شيئًا تحت الأرض إلا تنظيمه السفلي؟!
إلى منتحلي صفة النخبة نقول لهم توجهوا إلى محطة « الشهداء» أسفل ميدان رمسيس الشهير واسألوا أنفسكم لماذا مات من مات وجرح من جرح وأنتم لا تدركون!