الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
السحب ع المكشوف!

السحب ع المكشوف!






تقول الحكمة: «إنه كلما كنت قادرًا على خداع الناس أصبحت قادرًا على السيطرة عليهم، وكلما كنت قادرًا على مواجهتهم بالحقيقة أصبحت ضحية لهم».. لكن الدول ومصائر الشعوب لا تدار بمثل هذه الأفعال أو تخضع لتلك الأقوال!
عليك أن تتذكر أن النصاب عادة ما يتمتع بخفة الظل والذكاء الاجتماعى الشرير والقدرة الهائلة على الخداع وتغييب الوعى حتى يتمكن من الإيقاع بفريسته.
 ولسوء الطالع رغم أن المصريين يؤمنون بمثل شعبى يقول: (يا بخت من بكانى وبكى عليا ولا ضحكنى وضحك الناس عليا) لكن طول الوقت تجد أن الاستجابة لمحاولات الإضحاك الخداعية أكثر من الاستجابة لمحاولات مواجهة الحقيقة والواقع، مثلهم مثل المريض الذى يرفض لقاء طبيبه الذى سيواجهه بحقيقة مرضه للبدء فى العلاج، لكنه يفضل التعايش مع المرض الذى لن يفارقه، بل ربما ينتقل إلى الأجيال المقبلة التى سترفض العلاج أيضًا ثم تشتكى أن جسدًا منهكًا لم يعد قادرًا على أداء وظائفه الحيوية.
المدهش أن الكثيرين ممن عاشوا حياتهم يزايدون على أنظمة الحكم المتعاقبة مستخدمين مفردات «العدالة الاجتماعية» والانحياز للفقراء والنضال الوهمى ضد الطبقية، المدهش أنهم طوال هذه السنوات راكموا الثروات، واستقلوا أفخم السيارات، وأصبحوا من قاطنى الكومبوندات، وقبلوا أن يكونوا لرجال الأعمال من الأدوات!
كانوا مازالوا يمارسون نفس منهج التضليل الذى أصبح أيديولوجية ثابتة لديهم، ولكن خطورتهم أصبحت تهدد السلام الاجتماعى بعد أن ضللوا أجيالًا كاملة وأقنعوها أن النضال الشفوى ضد أى نظام هو غاية لا منتهى لها، وأصبحوا أكثر إقناعًا بذلك بعد أن حقق لهم ذلك المنهج  قدرًا من شهرة منحتهم نفوذًا وراكمت حساباتهم البنكية، فتحول منهجهم إلى أسلوب حياة قائم على عملية خداع واستخدام مزدوجة فمن ناحية ينتحلون صفة المعارضة ومن ناحية أخرى يتاجرون بآلام البسطاء وبالتالى ليس من مصلحتهم أبدًا أن تقوم قائمة لأى نظام إصلاحى حتمًا سيؤدى إلى إفقادهم لأدواتهم التى سيطروا عليها لعقود ومكنتهم من أداء دور «الحاوى السياسى» الذى لا يقدم شيئًا سوى فقرات خداعية قد يلتف الجمهور حولها بعض الوقت برغم علمه أن عموم الحالة قائمة على ممارسة احترافية للخداع.. فلنتحدث الآن مباشرة عن المنهج الإصلاحى الذى يمارسه النظام الحالى لتصحيح أخطاء لم يكن أبدًا سببا فيها، هذا النظام الذى وقف رئيسه مرات عديدة معلنًا، ويؤكد أنه سيتخذ كل الإجراءات الحتمية التى خاف من قبله اتخاذها هكذا قال وهكذا نفذ، ولايزال البعض يتعامل مع كل القرارات الصادرة باعتبارها مفاجئة وتمت دون تمهيد.
  منذ مجيء «السيسى» وهو مصر على اتخاذ إجراءات إصلاحية شديدة الوطأة والتأثير على شعبيته، وليس من المنطقى أن يكون الرجل قاصدًا أن يعمل ضد شعبيته الشخصية خاصة أن ظاهر تلك القرارات لا يحقق أى مكاسب له أو لحكوماته المتعاقبة.
مع كل حزمة إجراءات تتعالى الأصوات الرافضة وتتجه الأنظار إلى «وهم الشعبية» لكن أحدًا لا ينظر إلى «حقيقة الشعب»!
لا تتوقف الأحاديث أبدًا عن أزمة اقتصادية تعانيها الدولة سببها الرئيسى عجز حاد فى الموازنة، وبالتالى انعكاس سلبى على معدل الإنفاق على القطاعات التى تمس حياة المواطن مساسا مباشرا ( التعليم - الصحة - النقل الجماعى- الضمان الاجتماعى)، دون أن يجرؤ أحد على أن يتصدى لأسباب العجز فى الموازنة الذى يؤدى حتما إلى ضعف الإنفاق العام على هذه القطاعات.
فلما يأتِى من يقتحم هذه الأزمة ويتخذ خطوات جدية للتخلص الجذرى من أسبابها المعروفة والتى يتم التحايل عليها والالتفاف حولها منذ عقود وهى دون مواربة الخلل فى منظومة الدعم ما أدى لوصول الدعم لغير مستحقيه كنموذج صارخ لتغييب مؤسسى متعمد للعدالة الاجتماعية، فلما يأتِى من يتصدى جديا لها، لذلك نقفز على الأزمة ونتحدث عن شعبيته كما لو كان اعترافًا بأن حقوق الشعوب وآمال وآلام المواطنين ما هى إلا أدوات سياسية للمناورة ولبناء الشعبيات على حساب الحقائق والضرورات!
وسط كل ذلك لا يكف الحواة والمتاجرون بمصائر الشعوب عن بناء وتصدير مظلومية معاناة مخلقة، فيرفعون سقف الآمال دون الحديث العلمى عن آليات الوصول إلى تلك الأسقف وعن حجم وجودة العمل المطلوب لتحقيق هذا المستوى، وعن حجم التضحيات المطلوبة للارتقاء.
  ليس هناك من بينهم من يتحلى بالشجاعة الوطنية للحديث الواقعى والعلمى عن الدور المطلوب من هذا المواطن المستهدف، ليس هناك من يجرؤ على أن يعلن الحقيقة وهى أن التغيير إلى الأفضل تصنعه الشعوب وليست الأنظمة.
يتحدثون عن نهضات حققتها دول مثل ماليزيا وإندونيسيا دون الحديث عن حجم المعاناة والتضحيات التى بذلتها الشعوب هناك، يتحدثون عن نهضة اليابان دون الحديث عن الثمن الأسطورى المدفوع بعد كارثة نجازاكى وهيروشيما، يرسخون فى ذهنية المواطن صورة مغلوطة عن علاقة أبوية تربطهم بالدولة ثم يناقضون أنفسهم مدعين رفضهم للرئيس الفرد، يتحدثون عن دولة المؤسسات وهم فى نفس الوقت يروّجون دون هوادة لدولة الشعبيات.
ليس من بينهم من يجرؤ على الحديث عن مثلهم الأعلى جمال عبدالناصر الذى انتهت زعامته بهزيمة يونيو لكن عظمته تجلت فى قدرته على استيعاب الهزيمة بعد أن بادر بعدها إلى تحويل منهجه من «مصر الزعيم» إلى «مصر الدولة».. فحتى تجربتهم الملهمة ما زالوا غير قادرين على استيعاب قدرتها على تطوير ذاتها آنذاك!
 إجراءات الإصلاح تمت من خلال حزمة تلو الأخرى وفِى كل مرة تجد حالة من التربص المزدوج بالشعب وبالرئيس، وكأن الخروج هذه المرة سيؤدى إلى التراجع عن الخطوات التى اتخذت أو سيأتى بمن هو قادر على الإصلاح دون هذه الخطوات المؤلمة، فإذا كان هذا الشخص موجودا بالفعل فليعلن علينا برنامجا كمرشح رئاسى للمستقبل!
فى كل مرة تتم خطة الإصلاح المعلن عنها مسبقًا فى منظومة شفافية غير مسبوقة فتنطلق نفس المجموعات بنفس التصريحات، وتستدرج المواطن لمنظومة سخط غير رشيدة وغير معروفة الأهداف، فى كل مرة تجبر خطوات الإصلاح المواطن على الترشيد الجبرى لسلوكه الاستهلاكى وفِى كل مرة يكتشف أنه أمر ممكن وأنه قام بالاستغناء عن حاجات لم تكن يومًا من الضرورات، أو قام بترشيد الكميات المستهلكة من بعض الضروريات ولم تتعرض حياته للانهيار أو التوقف.
ويبقى السؤال إلى متى سيظل الاعتقاد بأن الإصلاح يمكن أن يتم دون إجراءات مؤلمة؟ إلى متى سيظل الوهم بأن إصلاح وبناء الدول ليس فرض عين على كل مواطن وأن دوره الشخصى لا يقل عن دور الحكومة؟ إلى متى سيظل الاعتقاد بأن منظومة الخداع هى أفضل طريقة لإدارة الشعوب؟!
نحن الآن أمام حالة كاشفة لجميع الأطراف وضعت كلا منهم أمام مسئولية تاريخية لم يعد هناك مجال للتخلى عنها، نحن أمام نظام جديد يعبر بوضوح عن دولة «٣٠ يونيو» بعد أن قرر رأس هذا النظام  عبدالفتاح السيسى القضاء على منظومة الخداع الاستراتيجية قبل إصلاح منظومة الدعم، نحن أمام منتحلى صفة النخبة ومنظرى الشاشات وخبراء الوهم الاستراتيجى يدعون الدولة بلا استحياء إلى السحب على المكشوف ويدعون المواطن إلى قبول شيكات بدون رصيد حتمًا سترتد فى وجهه، لكن صِمَام الأمان هنا هو المواطن الذى لا يجب أن يبتاع هذه البضاعة التالفة.
  نحن أمام نخبة ومدعين للخبرة نفد رصيدهم تمامًا وأصبحوا مكشوفين فلم يعد أمامهم إلا المتأجرة بآلام الشعوب بعدما استباحوا ماضيها ومازالوا مصرين على استباحة مستقبلها.