الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الانتحار القومى!

الانتحار القومى!






فى لقائه مع المخرجة ساندرا نشأت ذهب المرشح الرئاسى آنذاك عبدالفتاح السيسى يحاول شرح فلسفة سياساته التى طبقها خلال فترة رئاسته الأولى، ثم تحدث بوضوح عن أزمة الكثافة السكانية التى تلتهم التنمية وتساءل صراحة عمن ينجب خمسة أبناء وكيف سينفق عليهم، ومن كان يظن أنه سينفق عليهم غيره؟!
 يبدو أن صراحة الرجل صادمة لدرجة تفوق القدرة على استقبالها، لكن تساؤلاته هذه لا تعبر عن حالة استفسار، بل بغرض التعجب والاستنكار، وبهدف الإعلان عن توجه جديد سيستهدفه خلال الولاية الثانية من خلال خطة قومية لا بد وأن تضع حدًّا للمشكلة السكانية التى أدت لتحول البشر من ثروة قومية تستخدم فى البناء والتنمية إلى «أزمة قومية».. وسبب للتأخر والتراجع والتهام الثروات وعوائد التنمية!
لا نقصد هنا الحديث عن التعداد السكانى باعتبار أن الزيادة تعد أزمة فى حد ذاتها، بل نتحدث عن الزيادة المتسارعة غير المنتظمة التى لا يواكبها تطور فى الموارد ومعدلات العمل والإنتاج، أى نتحدث عما يمكن تسميته بـ«الكَيف العددى» - أى كيفية السيطرة على معدلات الزيادة السكانية قبل أن تتحول إلى أزمة- بهدف تحويل الثروة البشرية إلى طاقة إنتاجية وليست إلى عبء استهلاكي، ولذلك كان المصطلح الرسمى المتصدى لهذه الأزمة هو «تنظيم الأسرة»، لكن تذكر أن مواجهة تلك الحملات منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضى قد تمت تحت وازع دينى باستخدام دعوات التناسل والتكاثر، وهو استخدام فى غير محله لأن التكاثر قد حدث بالفعل وتجاوز الهدف المطلوب من هذه الدعوة إذا صحت!
إذن فإن المقصود بالفعل هو عملية تخطيط لترشيد السلوك الإنجابى يعبر عن تصدى الدولة لمسئولياتها الاجتماعية ولتحقيق ما يعرف بالتنمية المستدامة.
 فلنتحدث عن أصل المشكلة التى هى أساسًا ناتجة عن تراكم سلوكيات غير رشيدة لما يمكن تسميته بـ«السفه الإنجابى» حيث تبدأ المشكلة من رب أسرة يدرك تمامًا مصادر دخله وحدود إمكانياته ومستوى قدراته، ومع ذلك يصر على تكوين مجتمعه الخاص بما يفوق تلك الإمكانيات، بِشكل يعبر بوضوح عن الفشل فى إدارة الذات، ومن أسرة إلى أخرى تتضخم الأزمة ويقذف بها فى وجه الدولة التى تحد نفسها مطالبة بإدارة حالة من الفشل الاجتماعى العام.
والمدهش أنك تجد استخدامًا صار مبتذلًا لمفهوم العدالة الاجتماعية التى أصبحت تستخدم سياسيًّا للضغط إلى ما لا نهاية على أى نظام، يتم الحديث عنها بكثافة دون أى ربط بينها وبين الزيادة السكانية التى هى أساس تعطيل أى مشروع لتحقيق العدالة الاجتماعية.
 هى حالة مشتركة لانعدام جماعى للشعور بالمسئولية تستدعى ضرورة العمل الفورى المؤسسى لترسيخ وفرض ثقافة ما يمكن تسميته بـ»العدالة الإنجابية»، إذن قد آن الأوان للتكريس المجتمعى لهذا النوع من العدالة عنوانًا لمسئولية قومية الجميع مطالب بأداء دوره فيها.
نحن أمام حالة شديدة الوضوح تضيف بندًا إلزاميًا للعقد الاجتماعى الحاكم للعلاقات بين الأفراد بعضهم البعض وبينهم وبين الدولة.
لعلنا يمكن أن نجمل مفردات هذه العدالة من خلال ما يلي:
- كل أسرة مسئولة مسئولية مباشرة  ومحددة.
- كل أسرة تدرك جيدًا إمكانياتها وقدراتها.
- كل أسرة يجب أن تكون مدركة أن الخلل فى سلوكها الإنجابى يؤثر على المجتمع بأكمله.
- كل أسرة يجب أن تدرك أنها شريك أصيل فى تحقيق التنمية المستدامة التى تحفظ حقوق الأجيال القادمة.
- كل أسرة ملزمة بتلقين تلك الثقافة للأجيال الحاليّة لخلق حالة مواجهة مستقبلية.
- ضرورة الترسيخ المباشر بالتأثير الإيجابى الحتمى لإقرار تلك العدالة على الحياة الكريمة وعلى المستوى المعيشى الجيد.
- الخلل فى السلوك الإنجابى ينعكس بالضرر المباشر على عموم المجتمع وبالتالى نحن أمام حالة تمنح الدولة حق التدخل ترغيبًا وترهيبًا.
 نحن أمام أزمة مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بسلوك المواطن وبالتالى فإن الحل لن يبدأ إلا بتعديل هذا السلوك بالنصح والإرشاد والتوعية والتحفيز تارة، وتارة أخرى بالإلزام القانونى، نحن أمام سلوك لا تترتب آثاره على من يسلكه بل تمتد بقسوة إلى أجيال حالية واُخرى مقبلة، نحن أمام ما يمكن تسميته بـ«الأضرار المركبة» نتجت عن سلوك خاطئ لأجيال سابقة ورثتها أجيال حالية تصر على توريثها لأجيال قادمة، فبدلًا من أن تترك الأجيال المتعاقبة لبعضها ودائع للتنمية فإنها تعمدت ترك ديون اجتماعية متراكمة ستدفع أثمانها أجيال لم يصدر عنها أى سلوك تسبب فى تراكم آثار المشكلة.
 ليست الخطورة هنا فيما تتسبب فيه تلك الأزمة فقط من التهام عوائد التنمية بدءًا من التأثير السلبى على معدلات استهلاك الكهرباء والمياه امتدادًا إلى أزمة المواصلات ومرورًا بالحصول على الخدمة الصحية والتعليمية اللائقة وصولًا إلى الحق فى السكن الملائم، ليس هذا فحسب بل الخطورة الحالية والحادة والمستديمة هى ما تخلفه تلك الحالة من مجتمعات عشوائية مشوهة الوعى والثقافة فتكون مصنعًا وحاضنًا لتجمعات بشرية أكثر قابلية للاستقطاب من تنظيمات إرهابية طالما كانت ولاتزال تستثمر آلام الشعوب، وبالتالى فإن خطورة تلك الأزمة فى كونها أصبحت المورد الأساسى للمادة الخام البشرية القابلة لإعادة التكرير التنظيمى لتصنيع نماذج بشرية مخلقة ضد أوطانها ومجتمعاتها، وهى حالة لا تنضب وقادرة على التجدد ذاتيِّا طالما لم يتم التصدى المؤسسى لها جذريًّا.
نحن أمام مواجهة حقيقية مع الحاضر من أجل المستقبل، نحن أمام حالة لن تنجح مواجهتها إلا من داخل كل أسرة دليلًا عمليًّا على تحمل المسئولية الجماعية، لن يكون هناك مجال للحديث عن العدالة الاجتماعية أو التكافل الاجتماعى طالما ظلت هذه القضية دون حلول جذرية، وطالما ظل تجاهلها منهجًا اجتماعيًّا يتم ربطه عمدًا بمكون دينى ليس له أى أساس شرعى.
لن يكون هناك مجال للحديث عن العدالة الاجتماعية طالما ظلت هذه القضية متروكة عائقًا أمام عدالة توزيع الثروات والموارد وعوائد التنمية.
لن يكون هناك مجال للحديث عن أى عدالة طالما ظل الإصرار على ممارسة السلوك الظالم للاجيال الحاليّة والقادمة.
لكن الحقيقة تقول إن مصائر الأمم لا تترك أبدًا لضمائر الشعوب أو أمزجتها أو موروثاتها، مصائر الأمم تحددها قواعد القانون التى تصنع من العقد الاجتماعى واقعًا عمليًّا ملزمًا لكل أفراد المجتمع الذين ارتضوا هذا العقد.
 ليست هناك علاقة تعاقدية سليمة إلا اذا رتبت التزامات كما ترتب حقوق، فإذا اخل احد الطرفين بالتزاماته المتفق عليها فإن عليه أن يدرك أن مقابل ذلك هو إخلال بحقوقه ، فإذا ترتب على سلوكه ضرر للمجتمع فإن ذلك حتما يمنح الدولة حق التدخل بقوة القانون لتقويم هذا السلوك .
من غير المنطقى أن تترك الدولة رهنا بقرار غير مسئول لعملية انتحار قومى .
نحن أمام دولة ملزمة بقوة القانون لإنقاذ نفسها وإنقاذ الأجيال القادمة التى تدفع ضريبة فاتورة لم تنفق منها شيئا، نحن أمام حالة ضد الفطرة السليمة فبدلًا من أن يترك الآباء لأبنائهم مالا أو علما ينتفع به فإنهم يتركون لهم شقاء وبؤسًا ومعاناة.
الآن ودون تأخير آن الأوان لهذا الوطن أن يتدخل بكل الوسائل الاجتماعية والتربوية والتعليمية والقانونية للتصدى لحملات الانتحار الجماعى.