السبت 25 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مذكرات الغرفة 8: استلهام أمل دنقل ومساءلة الجماعة الثقافية

مذكرات الغرفة 8: استلهام أمل دنقل ومساءلة الجماعة الثقافية






يختار فهمى عبدالسلام عنوانا لكتابه الجديد «مذكرات الغرفة 8»، والصادر فى القاهرة حديثًا عن «المحروسة» للنشر بالقاهرة، يتماس فيه مع عنوان الديوان الأخير لأمل دنقل «أوراق الغرفة 8»، هذا الديوان الذى حوى حسًا تجريبيًا، ونزوعًا إنسانيًا بارزًا، ومن الغرفة 8 التى شهدت الاعتلال الأخير لصاحب «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة، وتعليق على ما حدث، ومقتل القمر، والعهد الآتي، وأقوال جديدة عن حرب البسوس، وأوراق الغرفة 8»، يختار الكاتب والأكاديمى فهمى عبدالسلام عنوان كتابه الذى يستعيد جملة من الذكريات الفائتة، التى ألحت عليه كثيرًا حتى وجدت طريقها للكتابة، خاصة بعد الاستدعاء المجازى لأمل دنقل فى يناير 2011 عبر شعره ونصوصه الملهمة، مع آخرين ممن شاركوا فى صياغة الوجدان العام، لتحضر «أغنية الكعكة الحجرية» بوصفها ظلًا جامعًا بين الماضى والحاضر، وتحضر معها حكايات موازية عن عوالم متعددة، تخبو وتشتعل، تنمو وتطرد، تتسم بالتحول المستمر، يتماس الكتاب معها، فيقدم قراءة للحظة فارقة من عمر الثقافة المصرية تمتد لعشر سنوات من العام 1973 إلى العام 1983 وهى الفترة التى جمعت بين الكاتب فهمى عبدالسلام طبيب الأسنان والمعيد بالجامعة آنذاك والشاعر المتمرد الكبير أمل دنقل.
يحيل الدكتور فهمى عبدالسلام إلى الأسباب التى دفعته للكتابة التى بدا مترددًا بإزائها كثيرًا، حتى حسم خياره، فكشف جانبًا آخر من دنقل وحياته، من علاقته بالعالم والجماعة الثقافية، لكن وعلى الرغم من هيمنة الشاعر الكبير على فضاء الكتاب إلا أن المقاطع التى يظهر فيها الصوت الخاص المستقل لكاتبه تبدو مشعة للغاية، وهذه المقاطع تحضر عبر أكثر من صيغة وبأكثر من طريقة، بدءًا من المقدمة التى يلوح فيها النزوع التحليلى فى الخطاب، ومرورًا بالفصل الأول(فى سوق الحميدية ونظرات من تحت لتحت)، حيث يمتزج السرد الذاتى بالموضوعي، ويختلط الخاص مع العام، ونتعرف على جانب من التاريخ الشخصى للكاتب عبر اختلاطه بالتاريخ العام لأمة لم تتوقف يومًا عن الحلم والمقاومة، ووصولًا إلى الفصل الأخير»الختام» الذى يعود فيه الكاتب إلى آلية الموازاة بين «هاملت» و»هوراشيو» من جهة، وأمل دنقل وعبدالسلام من جهة ثانية، فمثل هوراشيو الذى طلب منه صديقه هاملت أن يروى ما حدث له كى لا تُجرح سيرته من بعده، قائلًا له: «تحمل التنفس بصعوبة فى هذا العالم القاسي، لتحكى قصتي،..»، يتحدد صنيع فهمى عبدالسلام حيال حياة أمل دنقل ومنجزه، لتصبح العبارة الأخيرة فى الكتاب جملة مفتاحية فى فهم الكتاب وتأويله ووضعه فى سياقه الموضوعى أيضًا.» فى النهاية لا يسعنى سوى أن أمتثل لنصيحة هاملت،...».
وحياة دنقل نفسها وموته بدا مأسويين للغاية، وعلاقة الشاعر بالكاتب علاقة يمكن استخلاصها من جملة الفصول المتواترة وصوغها على النحو الشكسبيرى الشيق الذى كان يردده هاملت لصديقه هوراشيو « هوراشيو إنك لرجل شريف، لن التقى بمثيله، أنت الذى اختارته نفسى منذ أن بدأت تميز بين الناس، لأنك كالذى عانى كل شيء فأصبح بذلك لا يعانى شيئًا، يتلقى من الأقدار الخير والشر بامتنان واحد».
من أثر التراجم الأدبية والسير الذاتية يخرج الكتاب، ويوسع من أفق الدلالة الكلية، فيذهب صوب الكشف عن الأنساق الحاكمة لحركة الشخصية القلقة المتمردة، التى طالتها أحقاد الصغار المتواترة والمستمرة، والمبتعدة عن النظر المنهجى للظاهرة الشعرية والرؤيوية التى يمثلها دنقل؛ فالشاعر الذى كان صوتا لجماعته البشرية، ولناسه من الجماهير التى عانت الانكسار والخديعة، وشهدت لحظة الهزيمة المأسوية فى الصيف السابع والستين، خرج من بينها من يحمل عبء كلمتها المعلنة، من يصبح راويها، متجهًا إلى توظيف التراث العربى تارة، والميثولوجيا الدينية تارة ثانية، وصارخًا فى الأفق مكرسًا لشعرية الرفض، فى لحظة تاريخية معقدة، وسياقات سياسية وثقافية ملتبسة، وتغلبت شعرية الشعار حينًا على الجمالي، وبدا الصخب الأيديولوجى حاضًرا حينًا آخر.
تتواتر فصول الكتاب(يوسف إدريس والولاعة الديبون/ محمد حسنين هيكل وبديعة مصابنى وأمل دنقل/ الحسن الأعصم وحرب الاستنزاف ومزاج رمادى حزين/ من زمن الحسن الأعصم إلى زمن موشيه ديان/ نجيب محفوظ وجنرالات المقاهي/ مناضلون وفتاة سمراء وثلاجة إيديال/  كلمات متقاطعة وعود ثقاب مطفأ/ النجوم فى السماء والعداوات على الأرض» وغيرها، وتمثل هذه العناوين جزءًا مركزيًا من بنية الكتاب، أو يحمل بعضها طابعًا مجازيًا، مثل: «كلمات متقاطعة وعود ثقاب مطفأ / النجوم فى السماء والعداوات على الأرض»، وبعضها يحمل أسماء حقيقية سواء معاصرة (يوسف إدريس أو هيكل)، أو تاريخية (الحسن الأعصم أحد قادة القرامطة)، أو أمكنة واقعية (فى مقهى ريش صقور وصقور).
لم يكن التوسع فى التحليل النقدى فى محله فى بعض المواضع، وأحيل إلى فصل «نكسة يونيو وأبو موسى الأشعرى والتواطؤ التاريخي» لأن قارئ الكتاب يود العثور من جديد على أمل، أمل الذى شوهته بعض الصور الذهنية المستقرة، والقراءات المبتسرة، والكتاب ينهض بمهمة حقيقية فى هذا السياق، ومن ثم كان الخروج لمساحات كمية كبيرة من القصائد أو التوسع النسبى فى قراءتها أحيانًا معطلًا للتدفق الحكائى الملهم الذى نجده فى الفصول المختلفة للكتاب، والكاشفة عن جانب من المسكوت عنه فى حياتنا الثقافية. كان يمكن أيضًا أن تبدأ بعض الفصول بلا استطرادات مجانية أو مقدمات زائدة مثل الفصل الثانى ، حيث يمكن أن تحذف الفقرة الثانية، وربما كانت من مزايا الكتاب حقا أنه يكشف جانبا من التاريخ الشائك للجماعة الثقافية، وهو تاريخ شفاهى فى معظمه، ويمكن أن يصنع فهمى عبدالسلام صنيعا ذا بال فى هذا السياق.
وبعد.. يبدو الكتاب مشغولا بأمل وزمنه وسياقاته، بالجماعة الثقافية وآفاتها، يقدم وجهة نظر صوب العالم، لا تخفى انحيازاتها، فتقترب من حواف الأشياء وعمقها فى آن.