الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الفن بين الألم والعنف واللامعقول

الفن بين الألم والعنف واللامعقول






«إن أى فن لم يولد من رحم الألم يموت بالسكتة».. هذه ليست حكمة قديمة ولا مجرد فرضية جدلية لكننا نستطيع أن نعتبرها طرحا نقديا يندرج تحته الكثير والكثير من الأحجية الإبداعية.. فى البداية علينا الافتراض أن بعض الفن هو خروج عن السواء أو تعبيرا سويا عن انتفاضات خارجة عن السيطرة فى النفس البشرية، وعلى الرغم من أننا لن نستعرض العديد من نظريات علم النفس التى تعضد هذه الفرضية، إلا أننا نؤكد أن مدارس علم النفس أجمع تعتبر الفن نفسه وخصوصا الذى يتخذ من اللا مألوف طريقا له تعتبره نوعا من التعبير عن الكبت العقلى والفكرى أو عن بعض الممارسات الغريبة التى تحدث داخل النفس، ولا يمكن للعقل أن ينقلها خارج حدود النفس بشكل واقعى، ومن ثم يعيشها داخله ويطرحها خيالا فى صورة مادة فنية.
ولهذه الفكرة تاريخ ضارب فى القدم سواء لفظيا أو نظريا، فمثلا كان الإغريق القدماء يطلقون على الشعراء لقب «المهووسين»، فالشعر عندهم على حد التعبير الإغريقى القديم «مانيا» أى «هوس» أو حالة يتلبس فيها ربات الشعر الفنان، ومن ثم يطلق شعره كحالة من الهذيانات أو مثله فى ذلك مثل العرافين الذين يمارسون العرافة فى المعابد القديمة.
الإبداع فى مجمل حالاته حالة نفسية فيها الكثير من الاهتزاز والنزوع نحو عالم وحدوى داخلى خاص بالفنان يحاول أن يخرجه إلى الواقع بشكل يكون أكثر تقبلا حتى لا يصطدم بالواقع إذا خرج فى صورة أفعال أو فعل عنيف، ولدينا مثال حى على الأدباء الذين حاولوا أن يخرجوا علينا بهذه الدفعة فى الواقع دون تهذيب، سواء أدبيا أو فعليا ومنهم «الماركيز دى ساد» والذى ينسب إليه بداية الحداثة والثورة على الكتابة فى القرن الـ19، وحيث كانت ممارساته الغريبة وغير المقبولة اجتماعيا وخلقيا سببا فى أن يعيش معظم حياته فى السجون وطريدا مشردا على الرغم من أصوله العريقة، وفى محاولة منه لتفعيل الحيل الدفاعية أى أن يخرج طاقاته المجنونة دون حدوث الصدام بينه وبين سلطة العرف والتقليد فى مجتمعه، كتب أعمالا أدبية تميزت بهذه النزعة الهدامة ومن ثم لا نستطيع أن نضمه لقائمة الكتاب الناجحين لكنه على الأقل قدم لنا مثالا محطما لفنان غلبته هواجسه وهذياناته فأصبح أحد شياطين الفكر.
من جهة أخرى علينا أن نعترف أن الألم والصراع الذى يحدث سواء داخل نفس الكاتب بين مشاعر الخير والشر والفرح والألم والضديات اللامتناهية من ناحية، ومن ناحية أخرى صراع الكاتب نفسه مع عالمه الخارجى هذه الصراعات المزدوجة تخلق وسطا صالحا للإبداع ولا أصدق على ذلك من أعمال عظيمة خرجت من رحم الألم والمعاناة، نذكر مثلا من بينها عملا شهيرا حصل على «بولتيزر» ومازال من أعظم الأعمال الروائية فى تاريخ السرد وهو رواية «رماد أنجيلا» الشهيرة للكاتب الكبير فرانك ماكورت الأمريكى الأيرلندى، والذى قدم سردا حقيقيا لسيرته الذاتية، والتى تعتبر تراجيديا واقعية أقوى ألما من الخيال ذاته ومن ثم طبقت شهرتها الآفاق، وتحولت لفيلم سينمائى ودارت حولها مئات المحاضرات وكتب فيها ما يربو على الخمسمائة دراسة ومقال .
إذا شِق المعاناة فى الفكرة الإبداعية هو جانب الخلود، وربما هو أحد أسباب النجاح ولعل المدرسة الأسبانية فى الفن قدمت لنا العديد من الأمثلة فى كل المجالات التى تثبت أن المعاناة والألم والصراعات النفسية داخل الفنان هى التى تخلق فنا قويا يستحق الخلود، ولن نبالغ إذا قلنا أن الخروج عن المألوف والتعلق بفكرة الألم والصراع النفسى داخل وخارج الفنان هو الذى قدم لنا نماذج حركت عالم الإبداع، وقدمت حراكا فكريا وجدليا حولها سواء اتفقنا معها أم اختلفنا فأنها علامات مضيئة فى دنيا الإبداع، وقبل أن نتحدث عن الكاتب الأسبانى الكبير والمبدع فرناندو آرابال علينا أن نفترض أن الفن الأسبانى فى مجمله فن نابع من عدة مصادر نفسية دون غيرها، وهى الألم والعنف الذاتى أى المكبوت داخل النفس ثم التمرد على السلطات الكلاسيكية، وبالأكثر سلطة الكنيسة فمعظم أفكار السينما الأسبانية مثلا هى نقد صريح وربما عنيف أحيانا لسلطات الكهنوت متمثلا بشكل كبير فى الكنيسة، ثم سلطة الأسرة التى يراها المبدعون أحيانا مصدرا كبيرا للصراعات الداخلية والسيكولوجية للمبدع الأسبانى بشكل عام، ولعلنا لن نبالغ إذا قلنا أن السينما الأسبانية كانت مرآة للأدب والفن الأسبانى بشكل عام حتى أننا نرى أن مخرجا كبيرا مثل خوسيه فرانكو، والذى قدم نقدا عنيفا ودمويا أحيانا لسلطات الكنسية فى أسبانيا وخصوصا فى العصور الوسطى وحتى نهاية عصر النهضة حتى أنه عاش معظم حياته خارج أسبانيا بل ومنع رسميا من دخول أسبانيا، ومن أهم أفلامه فيلم خطابات حب لراهبة وفيلم شياطين، ومخلوقات ملعونة ومعظمها تطرح رؤية نقدية فى أطار عنيف ودموى أحيانا ، ظل هذا الإطار فى السينما الأسبانية كمدرسة مستقلة، وأهم من يمثله الآن هو المخرج الأسبانى الأشهر بيدرو ألمودافار والذى حصد بفيلمه الشهير – تعليم سيء – جوائز عديدة وكان يهاجم أيضا الكنيسة وسلطتها غير القابلة للنقاش من خلال طرحه لأهم قضايا الفساد الجنسانى داخل المدارس الكنسية.