
باسم توفيق
جاكوب شكاندر رجل الدراما التشكيلية البوهيمى
على الرغم من أننى كنت أنظر دائمًا له على أنه فنان بين عدة أهواء وعدة ألوان إلا أننى كنت أحترمه وأبجلة ولا أرى فيه منافس قط ، بل كنت أرى فيها مابقى من عراقة وأصالة الفن فى الأقاليم المنسية فى وطننا وفى مناطق الحدود النائية.. انطباعى أحيانا وواقعى أيضا لكنه بدا دوما من مشجعى الكلاسيكية الجديدة والرومانسية فى أرقى صورها.. لذا كنت أرى دائما أن زيارة قبره شيء أراحنى لأننى لم أستطع أن التقية حتى حينما كان فى باريس.
الحقيقة أن هذا الجزء من مذكرات عبقرى المودرنيزم التشيكى الفونسو موكا يظل خير وصف وتحليل للفنان الكبير والعملاق التشيكى البوهيمى جاكوب شكاندر، والذى يعرف بأنه رجل الفن التشيكى المكتمل على الرغم ميوله الواضحة لمدرسة ميونخ فى الفن التشكيلى فإنه أيضا يأخذ خطوطا عميقة من عدة مدارس عاصرها فى وقته بل ويضيف عليها من مهاراته هو كمبدع له دوره الحقيقى والفعال كما سنشرح فى تحليل أعماله .
لقد خيم العالم الواقعى بكل سوداويته على أعمال شكاندر فبدت لوحاته حكايات وملاحم حزينة بل كما يصف البعض قصائد تنطق بهوى القلوب الكسيرة، ويظهر ذلك فى معظم عمال شكاندر فهو يفضل الأجواء التى يخيم عليها لحظات الغروب والأجواء الضبابية، ويحب أن تكون غالبا أبطالة أبطالا وحيدة فى ركن من أركان اللوحة تنعى حزنها فى صمت، وهكذا قد يكون كما قال ماكس برود أن مصدر المشاهد السوداوية هو ذلك التأثير الذى تركه شكاندر فى كافكا، وتعتبر أهم اللوحات الموجودة فى متحف براغ الوطنى تعبر عن هذه الأجواء ومنها على سبيل المثال لا الحصر لوحة – كل أرواح اليوم – والتى تمثل سيدة عجوز تقف وحيدة ناظرة إلى الأرض فى شبة اغفاءة أو كأنها بملابسها القديمة والفقيرة، ووجها الأجعد تمثل ثقل السنين على قلبها وتنعى مرارة الأيام الطوال، كما تطفح اللوحة بوصف رومانسى لأجواء الخريف وحيث يحب دائما جاكوب شكاندر أن تكون الفصول فى لوحاته هى تلك الفصول التى تعبر عن الأجواء الحزينة مثل الخريف والشتاء لكن شكاندر كان يملك هذا الحس الذى جعله يخرج أغلب أعماله فى تقنية درامية بل واستخدم الرمز الدرامى بشكل خفى فى أعماله وحتى إنه اختار لأعماله أسماء تصفها وكأنها فعلا دراميا محضا مثل – الطقس الأخير – طريق الحزن – شارع المساء، والعديد من أعماله يحمل هذا الطقس الدرامى الشديد العمق وقبل أن ندخل لهذه النقطة فى أعماله علينا أن نشير إلى السبب فى ذلك حيث أحب شكاندر الدراما كثيرا بل وعزز ذلك أنه كان يعمل فى مسارح عديدة لتزيين المسارح بلوحات وأفرسكات وهكذا كانت تواتيه الفرصة دائما لمشاهدة الأعمال الدرامية فوق مسارح براغ ومن ثم تأثر بها كثيرا وكان هو نفسه دارسا غير متخصص للدراما وفنونها لكن السبب الأكبر فى هذه التقنية الدرامية لأعماله هو تأثره بأخيه الأكبر إيمانويل شكاندر كاتب الأوبرات الشهير، والذى اشتهر فى ألمانيا والتشيك بل وكل أوربا شهرة واسعة، وكان تأثيره كبيرا على أعمال شكاندر حيث خيم الجو التراجيدى المستلهم من الأوبرات على هذه الأعمال كما يؤكد بعض كتاب سيرته الذاتية أن إيمانويل كان يستعيد أحيانا بأخيه جاكوب فى رسم بعض المشاهد الأوبرالية حتى يستطيع أن يتخيل كيف يتم تأديتها على المسرح ولعل لوحته الشهيرة جريمة قتل فى المنزل تبين بجلاء أنها من تلك النوعيات التى تشرح هذه النقطة بالتحديد فى حياة جاكوب شكاندر.
تعتبر أهم الفورات الدرامية التى يجب أن نطرقها فى أعمال جاكوب شكاندر هى لوحته الشهيرة – جريمة قتل فى المنزل - والتى تعتبر من أهم وأشهر أعمال شكاندر حتى أن الناقد الأمريكى يقول إن هذه اللوحة هى أكثر أعمال شكاندر تعبيرا عن روح التنوع فى أعماله بل يؤكد النقاد الفرنسيون أن الرومانسية الفرنسية تتجلى فيها بشكل صارخ وتقارن بأعمال هنرى دومية التى تعالج آلام وتطلعات الطبقات الدنيا فى المجتمع الأوربى، تمثل اللوحة اكتشاف جريمة قتل حيث جعل شكاندر القتيلة فتاة بين السابعة عشرة والتاسعة عشرة من العمر ملقاة فى وضع بوليسى يعبر عن الجريمة ولأن الجريمة هى موضوع اللوحة فقد جعل الفتاة ممدة فى أكثر من 50% من اللوحة وباقى الشخصيات فى ركن أقل بكثير من هذه النسبة على الرغم من أن عدد هذه الشخصيات عشرة أشخاص بين نساء ورجال شباب وعجائز وحتى طفلة صغيرة تشاهد بتأثر تلك الفتاة الملقاة أمام المنزل فاغرة فاها نتيجة طعنه، ونفثت بعض الدماء من فمها ولا تضارع حرفية تصوير الترتيب الحركى واتقانه فى وضع الفتاة القتيلة غير لوحات الواقعية الحديثة فى العصر الحالى مما يدل على أن جاكوب شكاندر كان متمكنا من مهاراته التشريحية كما تعتبر نسب الأشخاص واتجاهات وجوههم غاية فى الاتقان مقارنة بالموقف التى تعبر عنه اللوحة أو دعنا نقول المشهد التراجيدى التى تصفه اللوحة، وحتى أن شارل مانسو الناقد الشهير يقول إن اللوحة تذكرة ببعض تجليات قبلة يهوذا فى لوحات عصر النهضة من حيث توزيع الأجساد وعلى الرغم من طرافة مقارنة مانسو إلا أنها تصف دقة شكاندر فى توزيع الأشخاص وحركاتهم على خشبة مسرح الحدث وكأنه يقوم بتخطيط حركى مسرحى – ميزانسيه – لمشهد من رواية، يغلب على المشهد فى اللوحة طابع الفقر الذى يميز معظم أعمال شكاندر فالمنازل تبدو عليها ذلك، والأشخاص نفسهم يرتدون ثيابا تدل على الفقر والحاجة .
ربما نستطيع أن نقول أن جاكوب شكاندر كان فى مرحلة من مراحل حياته متأثرا بشكل كبير بالمدرسة الانطباعية الوسيطة، والتى جذبت العديد من المنتسبين لمدرسة ميونخ بل والكثير من فنانيى جيل شكاندر لكنه والحق يقال كان مثل مواطنه الفونسو موكا فى تجاوزه هذه المرحلة، ومع ذلك نجد له أعمالا عديدة تمثل تأثره بالانطباعية الوسطى ويتميز أسلوبه فيها أنه ينتهج منهجا وسيطا بين تقنية حركات الفرشاة وبين تقنية التنقيط ومن ثم يصبح له أداء مميز فى هذه اللوحات التى تحمل عاطفيا نفس الطابع الدرامى الحزين الذى يعبر عن أسلوبه وقناعاته فى معظم أعماله ومن أهم لوحات هذه المرحلة لوحتيه شارع المساء والطريق .