
محمود بسيونى
تفاصيل الصفعة الألمانية «الميرى» لتميم
لم تعودنا السياسة الألمانية على «الصدفة» فى اتخاذ القرارات أو إطلاق البيانات العشوائية، فالمقياس الألمانى الدقيق لا تحركه الأهواء، خاصة فى القضايا التى لا تقبل القسمة على اثنين، فما بالك بتحديد الموقف من النزاع فى الخليج العربى، ولذلك يجب أن نتوقف كثيرًا أمام تكذيب وزارة الدفاع الألمانية لجريدة الشرق القطرية بعد فبركتها لحوار مع وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين، المسألة أكبر من التكذيب، خلف التحرك رسالة، وقد وصلت الرسالة «الميرى» الألمانية للدوحة، ونزلت الصفعة على وجه تميم.
يبنى التحليل السياسى على متابعة المتغيرات، وعبرها يتم استشراف التحولات فى السياسة الخارجية للدول، وما تقوم به ألمانيا تجاه قطر فى الشهور الأخيرة يبدو معاكسا تمامًا لما كان عليه الحال عقب اندلاع الأزمة الخليجية، وخلالها دافعت الخارجية الألمانية عن قطر، بل وتطور الأمر إلى حد التطاول على المملكة العربية السعودية بعد استقالة رئيس الوزراء سعد الحريرى وتواجده فى السعودية ثم عودته مرة أخرى، وهو ما انتهى بسحب السعودية لسفيرها فى ألمانيا ثم صدور قرار من الأمير محمد بن سلمان ولى العهد بوقف التعامل مع الشركات الألمانية فى أى مناقصات حكومية، واسقط فى يد رجال الأعمال الألمان، وتقلصت مساحة الحركة الألمانية فى الشرق الأوسط بخسارة السعودية.
بالتكذيب الميرى لما جاء فى صحيفة الشرق القطرية من اتهامات باطلة ضد دول الرباعى العربى يصبح من السهل التوقع أن ألمانيا قررت الاقتراب خطوة من دول الرباعى والهرب من معسكر قطر الخاسر.
لغة المصالح هى أساس السياسة الخارجية للدول الكبرى، ولذلك دخلت المانيا المعسكر القطرى طواعية، فحجم الاستثمارات القطرية فى ألمانيا يبلغ 25 مليار دولار، وتمتلك قطر 17% من أسهم فولكس فاجن للسيارات، و10% من مصرف دويتش فيلا بنك، وحصة صغيرة فى سيمنز، فضلا عن عدد من الشركات الألمانية العاملة فى قطر، كما عبرت عن انحيازها إعلاميا عبر ذراعها الدولية الدويتش فيلا العربية، وانطلقت فى الهجوم على دول الرباعى العربى مصر والسعودية والإمارات والبحرين، والدفاع المحموم عن قطر، وربما يفسر ذلك الحملات الصحفية المسمومة ضد الدولة المصرية والدفاع عن كيان إرهابى مثل الإخوان المسلمين.
إلا أن السياسة الألمانية الداخلية مرت بفترة صعبة عقب الانتخابات التى فازت بها انجيلا ميركل للمرة الرابعة، وتم تشكيل حكومة توافق بعد مفاوضات صعبة مع الأحزاب الأخرى، فى ظل صعود ملحوظ لليمين الشعبوى فى ألمانيا والمتبنى سياسة عدائية ضد المهاجرين وضد الأموال التى تنفقها عليهم ميركل، اجتازت ميركل ذلك المخاض بصعوبة، وأصبحت مكبلة بقيود اليمين الشعبوى ومن هم ضد الهجرة إلى ألمانيا.
ولا شك أن ميركل من أنجح السياسيين فى تاريخ ألمانيا، وأنها قادت ألمانيا والاتحاد الأوروبى لسنوات بنجاح، إلا أنها أصبحت الآن محاصرة بضغوط داخلية وخارجية صعبة، خاصة مع اشتعال الحرب التجارية بين أمريكا والاتحاد الأوروبى، وارتفاع اسعار النفط، وفى ظل تلك الظروف يصبح التمسك بمعسكرات خاسرة مثل المعسكر القطرى، ومعاداة أكبر الدول العربية انتحارا للسياسة الخارجية الألمانية فى الشرق الأوسط.
اتصور أن ألمانيا تبحث عن طريق للهروب من براثن الدوحة، لتعود مرة أخرى لسياسة الاعتدال التى انتهجتها لسنوات فى الشرق الأوسط وكانت ناجحة فى تقديم النموذج الألمانى إلى الشعوب العربية وظهر ذلك بقوة وقتما رفضت ألمانيا المشاركة فى غزو العراق والخروج من فلك السياسة الأمريكية، لتظهر سياستها الخارجية مختلفة إلى حد ما عن ما يقرر فى البيت الأبيض لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لا تتأثر سياسات الدول الكبرى بما يأتى فى الحملات الدعائية مدفوعة الأجر التى تنشرها الصحف والمجلات، ولا يضع السياسيون أجندتهم وفق ما يكتبه «أمير» يشترى ملايين المتابعين المزيفين على «تويتر»، أو ما تبثه قناة تليفزيونية موجهة مثل الجزيرة. الواقعية السياسية الألمانية تجبر ميركل على الابتعاد عن دولة يملك العالم اليوم ألف دليل على دعمها للتطرف وتمويلها للإرهاب، واصبحت خارج مجال التأثير فى السياسة الخليجية، ميركل تعلم جيدًا أن البقاء فى حظيرة الدوحة خسارة للمستقبل ولن تنتظر ألمانيا أن تكون الأعور الذى يقوده الأعمى.