السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«وجه آخر للصلصال».. قصص تنحو صوب الخلاص

«وجه آخر للصلصال».. قصص تنحو صوب الخلاص






ثمة امرأة تقف على الحافة فى «وجه آخر للصلصال»، المجموعة الثانية للقاصة عبير الحلوجى، والصادرة حديثا عن دار «بدائل». تتشكل المجموعة من ثلاث وثلاثين قصة قصيرة تمثل متنها السردى، وتبدو النصوص مجلى لتمظهرات إنسانية شفيفة، تحضر فيها تيمات عديدة «الحب/ الرفض/ الخوف/ الكبرياء/ الفقد/ الوحشة/ الونس/ الرغبة/ القمع/ الاغتراب/ التلصص/ التمرد/ الامتثال»، ويعد كل نص تعبيرا جماليا عن حالة فنية بالأساس تستقى مادتها من مخزون حياتى وافر، تتوافر عليه القاصة فى استعادة لعبارة تيودور أدورونو الدالة «أن تحكى شيئا معناه أن تتوافر على شىء خاص لتقوله لنا»، وهنا تنطلق عبير الحلوجى إلى عالم يحيا علاقة تتراوح بين الاتصال والانفصال، فكل شىء موصول ومقطوع فى آن، هذا الحياد الفنى الذى لا يقدم الشخوص ولا العوالم وفق رؤى سابقة التجهيز، والذى يستعبر كثيرا من آليات الثقافة البصرية، بوسائطها المختلفة، مثل كتابة السيناريو، وفنى السينما، والمسرح أيضا.
يهيمن الحكى بضمير الغائب على القصص الأربع الأولى «فتوى/ ازدراء/ إرث آثم/ آخر زمن»، وتحدث حالة من المباعدة الفنية بين الكاتبة والمسرود عنه، وتلوح رغبة فى الخلاص تهيمن على نصوص المجموعة، بدءا من قصتها الأولى «فتوى»، حيث ثمة امرأة مأزومة ومرتبكة فى آن، ترى فى الموت لأحد طرفى العلاقة خلاصا، وتبدو الشخصية القصصية فى المجموعة معبرة دوما عن بطل فى أزمة، وتتخذ الأزمة هنا أبعادا نفسية، ويبدو الخلاص مشوبا بخضوع لأعراف المجتمع وتصوراته العقائدية أيضا هنا، فالبطلة لا ترغب فى أن تكون زوجا لزوجها فى العالم الآخر، فالحياة قد ضنّت عليها كثيرا، حتى ترى فى الفتوى ضالتها «الزوجة لآخر أزواجها»، وفى وسط ذلك ثمة تحولات درامية طريفة ومبررة فنيا، كأن تدعو له بالبقاء خوفا من وفاته قبل أن تستقر على ما تفعله تجاهه.
فى «ازدراء» ثمة تصور طليعى فى النظر إلى العالم يلوح أيضا فى قصص أخرى، وتُصرح القاصة باسمى بطلتيها منذ البداية، حيث «إيمان» الموزعة فى اللا وعى بين أب مسلم وأم مسيحية، والممزقة بين عوالم مجتمع متناقض، ابن التدين الشكلي، والنظر الرجعى للعالم، تفر إيمان من الدرس الدينى للخطيب الشاب الذى لم يكن أكثر من متطرف يحض على التعصب والكراهية والتمييز الطائفى، لكنها لم تستطع الفرار من أسر مجتمع ضاغط، متأسلف، مسكون بالقسوة والعتامة، ومن ثم يصبح المختتم السردى دالا عبر جملة «مريم» الحوارية فى النهاية، والتى تنزل مثل صاعقة، والمسرودة باللغة المحكية وقد أحسنت الكاتبة فى ذلك حيث تغلغل هذا الفكر فى العقل العام، وحيث اللغة منطق التفكير بامتياز.
«فى إرث آثم»، يبدأ النص بلا مقدمات زائدة، ومن ذروة الحدث القصصى مباشرة، وبتوظيف لفصحى المثقفين: (يا حرامى.. يا نصاب.. سأفضحك أمام العالم كله. معى ما يثبت سرقاتك يا لص)، فثمة سارق للنصوص، يستدعى نصوص الكاتب الأب ليصير كاتبا بالوراثة وبسرطان التدليس المنتشر فى الأوساط الثقافية، وتبدو النهاية واقعية مبتعدة عن النظر المثالى للعالم والأشياء، حيث لم يحدث شىء، فطاحونة إنتاج العفن لم تزل مستمرة، وتأخذ اللغة هنا مستويات أدائية تهكمية وجزلة أيضا، وتبدو كاشفة عن وعى حقيقى للكاتبة بطبيعة الأداء اللغوى فى النص القصصى: «بمرور الأيام زادت ثقته فى صعوبة كشف أفعاله، فهو حكيم زمانه، مصدر فخر الأمة، مثل أعلى للطامحين».
فى «آخر زمن»، ثمة تبادل للوضعيات الاجتماعية، فالخادمة المعدمة أبدت دهشتها فى نهاية القصة من ملابس ابن سيدتها الشاب الذى يرتدى بنطالا مهترئا، يمنحها الدهشة، والعنوان الساخر هنا من طريقة فى الحياة وأوان بعينه، ومن ثم فهى مروية من وجهة نظر الخادمة لا المخدومة رغم أن السرد فى مجمله يشير إلى المنطق المغلوط للخادمة فى تبين أن آثار التقطيع واهتراء الملابس لم تكن أكثر من موضة الآن، إنها المراوحة التى تظلل المجموعة، والتى تجعلنا بإزاء رغبة فى الخلاص والكمون فى آن، فى البوح والسكون معا، فى مساءلة العالم ومداعبته أيضا.. فى محبة الآخر وإدانته.
تلعب الحوارات العامية دورا فى تنمية الحدث القصصى، كما فى قصة «ابتسامة مؤجلة» التى تتبع البناء الدائرى عبر آلية تبادل الأدوار، حيث تعيد الساردة البطلة الجملة نفسها فى نهاية القصة لقائلتها الأساسية: «حلو قوى فستانك، جبتيه منين؟ ولا تقدرى تقفى على بابه».
فى «أرملة ولكن» ثمة مراوغة فى العنوان المخاتل الذى تستخدمه الكاتبة، فضلا عن توظيفها أسلوب التدوينات الشخصية فى نهاية القصة، حيث ليس ثمة أرملة، وإنما امرأة لم يسبق لها الزواج كما تحكى فى مفكرتها الصغيرة، لكنها تتلذذ بتعذيب الأخريات عبر حكايات مختلقة عن حنان زوجها الراحل وعطفه وأولادها النبلاء! وتستخدم الكاتبة هنا سُمكا مغايرا فى خط الكتابة فى لعب دال على فضاء الصفحة القصصية.
فى «أشياء تسؤكم» يبدو التناص مع الموروث الدينى، ويبدو السؤال دافعا للأسى الشفيف هنا، لتنتهى القصة بمفاجأة متوقعة ضمن دراما الحياة الوسيعة، وتتواتر تقنية المفاجأة فى «فقد»، حيث ثمة لوحة نكتشف أنها مركز الحكى فى النهاية.
يبدو موقف البين بين، وهذا التمزق بين الواجب والعاطفة، حيث الصراع الشكسبيرى الشهير هل تنحاز الشخصية إلى واجبها الأخلاقى تجاه الزوج وتتمنى نهوضه، أم إلى عاطفتها التى بترتها معاملة خشنة طيلة الوقت.
تبدو الجملة المفتاحية فى «الزجاجة وحدها لا تكفي» عينا على النص، حيث تتعزز رغبة مقموعة لن يعوضها العطر الرجالى مهما كانت درجة نفاذيته: (يعنى لا همّا ولا ريحتهم)!
تتخذ جغرافيا السرد مكانا جديدا فى «الصندوق الأسود» حيث الإشارات إلى الريف بقضايا الإرث المشتعلة داخله، وتوظف الكاتبة المونولوج الداخلى كثيرا فى نصوصها كما فى قصتها «وحُفظت الأسرار»، ويبدو اللعب عى مساحات الشعور البينية بين الأم والابنة حاضرا فى النصوص كما فى قصة «غيرة»، وهى مساحة نفسية شديدة التعقيد.
ثمة تنويعات سردية عديدة فى المجموعة، وصيغ مختلفة، تستلهم فيها مثلا تراثا مغايرا، مثل التراث الهندوسى فى «قانون الكارما»، حيث يبدو كل عمل مترتبا عليه عواقب مماثلة، وتغيب أسماء الشخوص أحيانا، فالغاية هى النموذج الإنسانى الذى قد تمثله الفتاة الحائرة فى «مجرد اسم»، مثلما يتصاعد الصراع النفسى داخل سيكولوجية الشخصية القصصية فى «قيد»، وقد تساءل الكاتبة الذهنية العامة فى قصتها «خزى» التى تكشف جانبا من مأساة التحرش بالمرأة.
تحضر الثقافة البصرية فى المجموعة بقوة وتتجلى فى المسرح بوصفه فنا أدائيا أيضا كما فى قصة «قاتل»، ونصوص أخرى، مثل قصتها المركزية «وجه آخر للصلصال»، حيث يبدو الصلصال الطيّع، المرن، قادرا على الإفلات من سجّانه، وقادرا على المقاومة للقمع الذكورى أيضا.
وبعد.. «فى وجه آخر للصلصال» تتقدم عبير الحلوجى بثبات بعد مجموعتها الأولى «انتهاك»، وإن ظلت بحاجة لتوسيع العالم القصصى، والمتخيل السردى، وقد بدت القصص فى مجملها كاشفة عن كاتبة موهوبة وحقيقية، تملك حسا مختلفا بالعالم، وزاوية نظر مغايرة، مسكونة بأفق المراوحة الرجراج، الذى يسم الإنسان، جوهر الأدب، وسؤاله الأساسى والسرمدى.