
باسم توفيق
«جان دوبفيت» فارس البساطة فى الفن الحديث
من المؤكد أن للفنون قاعدة مهمة من ناحية الفكرة الفلسفية وخاصة الفن التشكيلى بكل أنواعه وهذه القاعدة الفلسفية تختلف باختلاف العصر ومتطلباته ففى العصور ذات النزعة الرأسمالية يميل الفن إلى الرفاهية ويتماحك بعض الشيء بالمنظومة الرأسمالية وما ينطبق على الفن فى عصر الرأسمالية ينطبق أيضًا على الفن فى عصر الاشتراكية ، وفى فرنسا تصبح هذه النظريات مثالية فى التطبيق لأننا نجد أن الفنانين الفرنسيين بل وغير الفرنسيين المقيمين فى فرنسا يتأثرون بكل ما تطرحه الساحة الفكرية هناك ويصبح الفنان الباريسى مرآه باريسية للفكر السائد كما يقول انطوان ريمون صاحب كتاب «الفكر الباريسى والفن التشكيلى «من هنا كان للفنانين الباريسيين حالة إبداعية خاصة جدا قد نطلق عليها حالة الغليان الفلسفى وصدمة الواقع.
ويعتبر هذا الإطار هو الإطار الحقيقى لفنانى النصف الأول من القرن العشرين مع كل هذا الزخم الفكرى والسياسى والظلال التى ألقتها الحربين العالميتين على الحالة الفكرية المثالية لفنانى هذه الحقبة الزاخرة بالتنوع والإبداع والتى كان من بين فرسانها الفنان الكبير و فيلسوف الفن التشكيلى الفرنسى جان دوبفيت والذى يعزى إليه تكوين نزعه فنية فلسفية شديدة التميز وهى نزعت «الآرت مينتال «بحيث وجه دوبفيت كل طاقاته لإثبات انه ليس البشر الواعون فقط هم القادرون على خوض معترك العمل الإبداعى بل هناك أشخاص كثيرون ممن يطلق عليهم «الغير أسوياء عقليا «قادرون على تخليق أعمال إبداعية شديدة التميز والرقي، ومن هنا كرس دوبفيت جزءا كبيرا من حياته لدراسة هذه الحالة الإبداعية بل وكان نتاج ذلك أنه أسس متحفا كبيرا للعديد من هذه الأعمال عرف بمتحف الفن الوحشى فى سويسرا.
ولد جان فيليب آرتور دوبفيت فى 31 يوليو عالم 1901 فى هافر بفرنسا وقضى بها طفولته وفى عام 1918 انتقل دوبفيت إلى باريس وبدأ دراسة الرسم فى أكاديمية جوليان للفنون الجميلة لكنه بعد ستة أشهر ولسبب ما مثله مثل دالى وبيكاسو وغيرهم من الفنانين الذين تمردوا على الأطر التعليمية للفن بعد ستة أشهر هجر دوبفيت الأكاديمية ليدرس الفن بشكل مستقل لكن الشاب الناضج والفنان المبتدئ بدأت تنتابه حالات من الرفض الشديد لكل هذه النظريات الفنية بل ووصل به الحال إلى ان شك فى قيمة الفن ككل ومن ثم توقف عن ممارسة ودراسة الفن عام 1924 ، وفى عام 1930 عاد مره أخرى للممارسة الفن بضغط من أنا ماريا صديقته واقتربت أعماله فى هذه الفترة بشكل واضح من المدرسة السريالية لكنه أيضا توقف لمدة عامين ثم خرج بمعرضه الأول عام 1944 والذى ظهر فيه تأثير السرياليين عليه بشكل واضح لكن هذا التأثير سرعان ما زال وأصبح دوبفيت يميل أكثر للمدرسة الميتافيزيقية.
لكن وجهة نظر دوبفيت الفنية تغيرت تماما بعد قراءته لكتاب المفكر العظيم والفنان هانز برينزورن والذى يسمى» إبداع المصابين ذهنيا» من ثم بدأ دوبفيت فى التفكير بمذهب فنى جديد انبثاقا من هذا المنطلق فقام بنحت مصطلح شديد الأهمية فى الفن وهو Art Brut والذى يعنى الفن الوحشى وتمييزا له عما يعرف بالمدرسة الوحشية يطلق عليه البعض Outsider Art اى الفن الدخيل ويعتبر دوبفيت هذا النوع من الفن ذو منحى إبداعى شديد التميز وخطير فى نفس الوقت لأنه نموذج فنى لا يحفل بالقيم الجمالية المتعارف عليها وبتالى يعبر عن نفسه بكل وضوح وعفوية من هنا بدأ دوبفيت فى جمع ودراسة الأعمال الفنية للغير متزنين عقليا والمصابين بارتجاع فى مستوى الذكاء والأطفال بالإضافة لأعمال بعض الفنانين الذين تميزوا بالجموح العقلى مثل أودلف فولفلي.
إذا تحولت وجهة نظر دوبفيت الفنية لمدرسة جديدة قوامها البساطة والعفوية، وفى نفس الوقت فهو يقترب من بساطة الأطفال فى التصوير حيث يذكرنا هذا بالفنان العربى الكبير صلاح بيصار حيث نكتشف فيه بعض وشائج الآرت بروت ومنهج البساطة الذى أسسه دوبفيت.
وربما هناك قصة غريبة تثبت لنا ان الفنان دائما ما يجد فى أحزانه ما يؤجج إبداعاته حيث يقول لوران بريفير أن دوبفيت كان قد تعرف الى فتاه فى باريس تدعى هلينا ونشأت بينهم علاقة حب قوية لكن هلينا والتى كانت تمارس الفن التشكيلى أيضا كانت تذهب للطبيب النفسى لمرورها أحيانا بمراحل من الاكتئاب الشديدة ثم بعد ذلك تطورت مراحل الاكتئاب فأصبحت تمر بنوبات هياج شديدة كل هذا زاد دوبفيت حبا فيها حيث كان يحاول أن يهدئ من ثائرتها فيعطيها قلما ويطلب منها أن ترسم وكان يقول لها ماذا يريدها أن ترسم بالتحديد فيقول لها ارسمى حديقة أو الموت وهكذا وذات مره وفى نوبة عنيفة انتابتها قال لها ارسمى الجنة فرسمت وجهه فبكى دوبفيت ومما زاد ألمه ان هلينا انتحرت بعد ذلك بساعات قليلة بعد أن قطعت شرايين معصمها، وكان دوبفيت يجد فى أعمالها التى كانت ترسمها تحت ضغط النوبات العصبية أعمالا فنية متميزة وعميقة.
وفى 12 مايو 1985 رحل الفنان والمبدع جان دوبفيت بعد أن حصل على جوائز عدة وقدرته مؤسسات فنية كبيرة ومتعددة.