الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«شاردان» صاحب الحدث الواقعى وصانع الفرح

«شاردان» صاحب الحدث الواقعى وصانع الفرح






تقول «لورنزا أنا مونتي» أستاذة تاريخ الفن بمعهد الفاتيكان «لم يكن من السهل تطويع اللون والدراما اليومية الحركية بكل مناحيها فى لوحة واحدة حيث كانت هذه المعادلة تبدو دربا من الخرافة فلم يكن من السهل أن تتعدى الفنون النبيلة القصور والكنائس فى معظم الأحيان إذا قلنا نبيلة، لكن الفنون الرخيصة كانت تملأ حوائط الأماكن العامة هذا فى معظم أوروبا فى القرن الثامن والتاسع عشر لكن فى فرنسا كانت الأمور مختلفة بعض الشيء حيث تمخضت طبقة من الفنانين عن ثقافة شعبية وبرجوازية شديدة التماهى مع الطبقات العامة وقد نطلق عليها طبقة فنانى البرجوازية الوليدة التى كان منها «جان باتيست شاردان» والذى لم يكن من الصعب علية وهو ابن حى سان جيرمان الفقير وأين النجار لم يكن من الصعب عليه أن يعبر عن هذا المزاج البرجوازى الجميل والمتنوع»، تعطينا هنا «لورنزا» فكرة عامة وجميلة عن «شاردان» فى كتابها عن تاريخ الفن فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر فى فرنسا وإيطاليا.
وكشأن كبار رسامى القرن السابع عشر، عالج شاردان موضوعات تشد الانتباه بشكل رئيسى بفضل نوعية اللوحات ذاتها. فهو ينقل أناسًا بسطاء وأشياء بسيطة إلى عالم كمال هادئ، يرسمه بإحساس واثق من الشكل واللون والبنية. وحتى الناقد الفرنسى دينيس ديدرو، الذى آمن بضرورة تعامل الفن مع الموضوعات النبيلة فقط، اعترف بإعجابه بقدرة شاردان على الارتفاع بالعادى من الأشياء إلى العام والشامل بفضل سحر أسلوبه. وتبين موضوعات شاردان الأساسية التأثير المتزايد لذوق الطبقة الوسطى فى فن الرسم فى عصره.
وبشكل عام، تنساب ألوان شاردان بأسلوب مخفف بحيث يصبح تأثيرها لطيفًا غير براق. كان يستخدم اللون بمزج طبقات ثقيلة وأصبغة سميكة، توحى بملمس موضوعاته بدقة مذهلة، لوحاته مدروسة بعناية بحيث يتوازن فيها كل شكل أو جزء ويتناسب مع غيره.
كان «شاردان» ابنًا لنجار باريسي، نشأ وعاش فى حى سان جرمان ده بريه حيث يقيم المصوّرون الفلمنكيون. وكان مصوّرًا واقعيًا لا يصوّر إلا ما تقع عليه عيناه فحسب، مثل مشاهد الحياة اليومية والطبيعة الساكنة والبورتريهات، ولم تظفر صوره للطبيعة الساكنة بمثل ما ظفرت به تصاويره للحياة اليومية من إقبال، وتعدّ لوحاته (الإناء والغليون) نموذجًا لقدراته الفذّة التى لا تستمد سحرها من دقّة تفاصيلها شبه الفوتوغرافية فحسب وإنما من الملمس الواقعى للعجائن اللونية أيضًا. فلقد كان شاردان يتمتع بأُلفة مرهفة الحساسية بموضوعه لم تتكرّر حتى ظهور سيزان، وكذا بحسّ عميق بالسياق العام للأشياء التى يصوّرها، وهى دائمًا التى يستخدمها عامة الناس ويهتمون بها.
ولقد صادفت لوحاته التى عرضها فى صالون باريس نجاحًا مدوّيًا لأنها كانت موجّهة إلى الجماهير البورجوازية التى كانت تميل بطبعها إلى صور الحياة اليومية التى تمثّـل ما يقع فى بيوتها. وتسابق أصحاب المصارف والسفراء الأجانب إلى شراء لوحاته، كما اقتنى لويس الخامس عشر اثنتيْن من أبدع لوحاته لتصوير الحياة اليومية. ومن خلال الصور المطبوعة بطريقة الحفر رخيصة الثمن وصلت لوحاته إلى الجمهور العريض، ولم يلجأ شاردان إلى الفكاهة أو الإثارة ولا إلى تصوير ما يدور فى الحانات أو حفلات الفلاحين السّـكارى، بل تحكّـمت فى موضوعاته أصول اللياقة عقلانيًا وعاطفيًا وإنسانيًا.
كان ثمة اتجاه مثالى فى فن شاردان عند تصويره للحياة اليومية، فهو فنان انتقائى من الطراز الأول رفيع المستوى شديد الرصانة والوقار، يخلو فنه من رغبة التهكّم والسخرية، فتميّزت أعماله من بين كافة منجزات القرن الثامن عشر بجدّيتها الجليّة، وكان نموذجيًا فى إيمانه بضرورة اضطلاع الفن برسالة تربوية، ومع ذلك نراه قد حقّق هدفه بحذر شديد خيفة أن تفرّ منه الحكْمة التى كان ينشدها. وتنطوى أعمال شاردان دومًا على مَغزى أخلاقى مثل أهمية الالتزام بالصدق وضرورة تربية الأطفال تربية صارمة، واعتبار العمل شرف جدير بالاحترام، ولهذا استوعب الجمهور فنّه بيُسر وإعجاب.
وغالبًا ما كان يؤثر مشاهد الحياة اليومية على مشاهد الطبيعة الساكنة حيث يصوّر ما يجرى داخل البيوت فى بساطة وسط غرف خافتة الإضاءة بلا نوافذ، مثل إعداد وجبة طعام بسيطة أو تربية الأطفال والترفيه عنهم. ولم يكن شاردان معنيًا بالمظهر السطحى بل بما يكمن وراءه، فكانت معظم أشكاله مألوفة عن عمد ويمكن أن تكون فى متناول أى إنسان، ويدلّ اختيارها على أنها مخصّصة للاستعمال لا لمجرّد الزِّينة والتجميل، فكانت أوعيته وأوانيه مكانها المطبخ لا قاعة الطعام، وجميعها امتداد منطقى لحياة أولئك الذين رسمهم شاردان فى صوره للحياة اليومية، فقطع الأثاث قليلة والملاءات من كتان لا من حرير لكنها نظيفة مصقولة بديعة التنسيق، والثياب ذوات ألوان غير زاهية لكنها منتقاة. وفى تسجيله لهذه الأشياء والأدوات يُضفى عليها العناية نفسها التى يضفيها على تسجيله للشخوص الآدمية، ومن هنا وفـّـق شاردان إلى التعبير الصادق عن روح مجتمع الطبقة غير المترفة لأنه كان يتخاطب بلغة الجماهير العريضة، وتتجلّـى هذه السمات فى كل أعماله مثل لوحة «صلاة البركة على الطعام و«الصبيّة لاعبة البجامون»، و«الطاهية» التى نراها بعد عودتها منهكة من السوق تحمل مؤن اليوم من أرغفة الخبز والفاكهة والخضروات والطير الذبيح وزجاجات النبيذ، مستندة بساعدها إلى المنضدة المرتفعة لتلتقط أنفاسها ممتثلة لقدرها ونصيبها.
لقد اعتاد شاردان أن يفتن مشاهدى أعماله بما تنطوى عليه لوحاته من صفاء وسكينة، وبعنايته الفائقة بالنظام والكمال فى بساطة متناهية يُهيّـأ لنا معها أنها لم تستنفِـذ منه جهدًا، من هنا أستحق شاردان كما يطلق علية الناقد الفرنسى مارك شيرو «رجل الواقعية والبهجة».