الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
العقاد.. وأغانى الإذاعة!

العقاد.. وأغانى الإذاعة!







اعتاد الكاتب الكبير المفكر.. عباس محمود العقاد أن يرد على أى رسالة أو سؤال يرد له من قرائه الذين يقرأون له على صفحات أخبار اليوم والأخبار، تحت عنوان «يوميات».. وسؤال القارئ واجابة العقاد كانت بمثابة درس فى المعرفة والثقافة والحياة أيضا.
وذات يوم تلقى العقاد رسالة وسؤالا من «محمد منير» مؤلف برنامج «مع الناس» فى التليفزيون يقول فيه: «كنت قد قرأت أن أحد المفكرين قال ما معناه: إذا أردت أن تعرف مدى رقى أمة فاستمع إلى أغانيها وأنى أرجو أن تتفضلوا بذكر اسم هذا الأديب المفكر ومبلغ الصحة فى كلامه»!!
وتحت عنوان «أغانى الأمة دليل على رقيها».. كتب: «أفلاطون هو صاحب الكلمة التى يرجع إليها المفكرون المحدثون والمعاصرون الذين يريدون أن يثبتوا أن للموسيقى فضلا كبيرا فى حياة الأمم وعملا ملحوظا فى شئونها الجدية ليترفعوا بها عن مجرد اللهو فى ساعات الفراغ! ولم يرسل أفلاطون كلمته مثلا سائرا يتناقله المتحدثون من قبيل شواهد الحكمة على ألسنة الأقدمين فنبه إلى خطر الاستخفاف بالتغيرات والتبديلات الموسيقية لأنه يهدد «الدولة ويتبعه لا محالة تغيير وتبديل فى الشرائع والقوانين».
ويستشهد العقاد برأى «السياسي» أندرو فلتشر أحد مشاهير القرن الثامن عشر وقوله : أننى أعرف رجلا على غاية من الحكمة والسداد كان يعتقد أنه استطاع أن يضع «أغانى أمة» فلا عليه أن يبالى بعد ذلك من يضع لها قوانينها، ونحن نعلم أن أكثر المشترعين الأقدمين كانوا يرون أنهم لا يقدرون على إصلاح أخلاق أمة بغير معونة من شاعر غنائى أو شاعر مسرحى فى بعض الأحيان!
وآخر المراجع المأثورة لهذه الكلمة فى العصر الحديث مقدمة الكاتب الأمريكى «جورج جين ناثان» للكلام عن الدنيا الزائفة حيث يقول : «لست أبالى من يكتب قوانين أمة مادمت أصغى إلى أغانيها».
ويمضى «العقاد» قائلا فى مقاله الممتع: «أما صواب هذه الكلمة أو مبلغها من الصحة، فيكفى أن نعرض الحقائق التى نستطيع أن نفهمها من الاستماع إلى أغانى الأمة لنعلم أن الكلمة صواب بجميع معانيها.
فمن أغانى الأمة نفهم طبيعة الغزل فيها، هل هو صادر من بواعث الغريزة الحيوانية أو بواعث العواطف الإنسانية وهل هو تعبير عن متعة جسد ليس إلا، أو تعبير عن شوق إلى التعاطف والمبادلة النفسية بين صفات اللطف والجمال فى المرأة وصفات الأقدام والفتوة فى الرجل؟!
ومن أغانى الأمة نفهم هل تجرى العلاقة بين الجنسين فيها على سفن العرف والحياء أو على دواعى الإباحة والابتذال وهل الحب فيها مسألة ذوق ونخوة وأريحية أو هو مسألة متعة وحيازة ومساومة؟!
ومن الأغانى نفهم أفضل فضائل الرجل والمرأة جسدا وروحا كما نفهم أحسن المحاسن التى ترغب كل من الجنسين فى الآخر، ومن الأغانى نفهم علاقة العاطفة بالثورة وعلاقة الشمائل الإنسانية بالمنازل الاجتماعية والأقدار المتعارف عليها! ومن أغانى الفخر والحماسة نفهم خلائق الأمة من العزة والمحافظة على الحقوق أو من الطمع والعدوان على حقوق الاخرين.
وأخيرا يقول العقاد: ولا نعرف شيئا تنطوى عليه خلائق الأمم وعاداتها يخفى على من يستمع إلى أغانيها، وقد نمتحن هذه الحقيقة ميسرة لكل من يريدها وهى تأليف مجموعة صغيرة من مائة أغنية من أغانى الغزل والفخر والفكاهة والمناجاة على اختلاف بواعثها، فأننا سنجد بعد مراجعة هذه المجموعة أننا نستطيع أن نحكم منها على أخلاق الأمة وآدابها وما تعمله القوانين والشرائع فيها، وسنجد بعد ذلك مصداق قول أفلاطون أن هذه الأغانى فى المجموعة الصغيرة لا تتغير بمعانيها وألفاظها وألحانها إلا وكان ذلك دليلا على تغيير جوهرى فى كيان الأمة وكيان الدولة معا».
انتهى مقال العقاد المنشور فى صحيفة الأخبار بتاريخ 29 أغسطس سنة 1962 أى منذ 56 عاما بالضبط، فماذا كان سيكتب لو سمع أغانى هذه الأيام؟!