الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
عثمان حمدى بيه رائد من رواد الفن التشكيلى فى القرن التاسع عشر

عثمان حمدى بيه رائد من رواد الفن التشكيلى فى القرن التاسع عشر






فى بعض الأحيان يكون الفن طاقة غالبة داخل الإنسان حتى أنه لا يستطيع أن يدفع نفسه لممارسة أى عمل غيره وقد يكون الفن غالبا دافعا قويا لأن تكون هناك طاقة على انتاج أنواع أخرى من الأعمال على هذا يصبح الفن من هو سمة غالبة على كل من خاضوا معارك النجاح فى الحياة العملية ولو بشكل رمزى.
ولعل هناك أيضا من الرجال من نستطيع ان نصفهم بـ(فنانين بدرجة خادم للفن) ولعل هذه التسمية هى ما نستطيع أن نطلقه على أهم فنان شرقى (إذا جازت التسمية) فى بر الشرق فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هذا هو الفنان المدهش عثمان حمدى بيه  ذلك التركى ذوى الأصول اليونانية الذى جعل من فن التصوير رسالة شديدة الرقى هذه الرسالة التى خلفت وراءها أهم وأكبر مؤسسات ثقافية وفنية فى الإمبراطورية العثمانية التى بدأت تصاب بالشيخوخة ثم العطب فى تلك الحقبة التى عاشها هذا الفنان المدهش عثمان حمدى بيه.
بهذا الفنان المدهش  - كانت بداية علاقتى به حينما دلفت إلى إحدى القاعات بمتحف ميوسيه دى أورسى (متحف دى أورسيه) بباريس والذى يضم أعظم ما تركته لنا المدارس الفنية منذ بدايات القرن الـ18 وحتى بدايات القرن العشرين.. في هذه القاعة بالدور الاول والتى تستطيع أن تطلق عليها بسهولة (قاعة المستشرقين) تطالعك أحد الأعمال العبقرية التى أنتجتها يد عثمان حمدى بيك وهى لوحة (فى حضرة الولى) عبارة عن رجل يهم بدخول أحد أضرحة الأولياء وهو فى حالة من النشوى والتبجيل فى آن واحد وأمامه قبر موضوع عليه عمامة..
ما يدهش فى اللوحة ليس موضوعها فقط لكنه أيضا تلك التكنيك الذى يعيد إلى ذهنك عظماء الفنانين فى مدرسة الاستشراق أمثال إنجى تيسر وجان ليون جيروم وغيرهما من تلك المدرسة التى قدمت الشرق لعيون المتلقى الغربى ولكن من منظور القصص الشعبى وحواديت ألف ليلة وليلة.
وبكل سهولة تستطيع أن تعقد مقارنة بين المستشرق الغربى والمستشرق الشرقى ذاته إذا جاز أن نطلق عليه ذلك وهذه المقارنة تبدو جلية من الجانب المواجه للوحة عثمان حمدى بيه حيث تعرض لوحات الفنان الكبير ليون بيللى والذى يتناول موضوعات شرقية بشيء من المبالغة الدراماتيكية أحيانا فيبدو متمسكا بمنظور ألف ليلة وليلة كما أسلفنا.
لكن قبل أن نأخذ رحلة سريعة فى عوالم عثمان حمدى بيه علينا أن نضع نصب أعيننا بعض النقاط فى مدرسة الاستشراق فى الفن التشكيلى وأهمها تلك المنظور الخيالى للشرق والذى يعتمد على صورة رومانسية لعوالم الشرق وشخوصه أساسها افتتان الفنان بالشرق من خلال القصص الشعبى الذى تمثل ألف ليلية وليلة فيه قاسم كبير وهذا جعل أحيانا أعمال المستشرقين أعمالا فانتازية مبالغ فيها بل أحيانا لا ترقى لمستوى الأعمال الوصفية الواقعية فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك لوحة من لوحات أحد المستشرقين تصور مجموعة من المسلمين يصلون ويبتهلون ولأول وهلة تستطيع أن تكتشف أن هناك شيئا ما خطأ فى هذه اللوحة فالمصلون المسلمون لا يصلون فى اتجاه واحد بل كل مجموعة تصلى فى اتجاه أى انه ليس هناك قبلة والتى هى شرط أساسى فى الصلاة كما أن المصلين لا يشتركون فى نفس الحركات فهناك من يبتهل برفع اليد وهناك من يسجد وآخر يركع ... وهكذا وعلى الرغم من دقة التصوير ورقى التكنيك فى اللوحة إلا أنها لا تتعدى أن تكون خيالا رومانسيا للصلاة.
وهناك العديد من النقاط  النقدية فى مدرسة الاستشراق لا يطول المقام لذكرها كلها.
يعتبر الفنان الكبير ورجل الدولة عثمان حمدى بيه من أوائل الفنانين الشرقيين الذى عرفهم الغرب ووضعت أعمالهم فى مصاف الأعمال الكبيرة للفنانين الأوروبيين الكبار وليس أدل على ذلك من أن لوحته تعرض جنبا إلى جنب مع لوحات جيروم وبيللى وفان جوخ وماتيس وغيره من فرسان متحف دى أورسية الباريسى الشهير.
تميز أسلوب عثمان حمدى بصفاء اللون وكما ذكرنا وتلك الرعشات من السرور الخفى التى تشع بها أعماله وهو يختلف عن بعض المستشرقين فى اختيار مساقط ضوئية فى أعماله أكثر إشعاعا ليبعد الكآبة التى تسيطر أحيانا على الموضوعات الشرقية فى التصوير كما أنه يعتمد الوقار كإطار أساسى لشخصياته وهذا بالتأكيد كان نتيجه لاختياره موضوعات دينية فى معظم أعماله مثل ( امرأة تقرأ القرآن – رجل يقرأ القرآن – ضريح أحد الأولياء) كما أن وجوه شخصياته أكثر واقعية من وجوه شخصيات فنانى الاستشراق الآخرين.
كذلك اهتمام عثمان حمدى بإظهار جماليات الخط العربى فى أعماله الفنية فهناك دائما تلك الأدعية والأذكار وآيات الذكر الحكيم التى تزين أعماله كجزء ذى موضوع فى اللوحة وذى حاجة فنية.
ولد عثمان حمدى بيه عام 1942 فى استانبول كان والده إبراهيم أدهم باشا يونانى الأصل من جزيرة خيوس اليونانية وتربى فى كنف أحد القادة العثمانيين وترقى حتى أصبح ذا مكانة رفيعة فى الإمبراطورية العثمانية.
بدأ عثمان حمدى متابعة دروسه الأولى فى إستانبول ثم درس القانون وفى عام 1856 ذهب لباريس ليكمل دراسة القانون لكنهأ الرسم كثيرا فبدأ فى متابعة دروس الرسم على يد اثنين من عظماء مدرسة الاستشراق وهما الفنان الكبير جان ليون جيروم وجوستاف بولونجيه ومكث فى باريس فترة ليست بالقليلة حتى انه تزوج من فرنسية تدعى مارى وبدأت دراسته تؤتى أكلها فاشترك بثلاثة أعمال فى المعرض الدولى فى باريس عام 1867 حيث كان أيضا فى شرف استقبال السلطان عبد العزيز الذى دعاه الامبراطور نابوليون الثالث لحضور المعرض.
ولما عاد عثمان حمدى لإستنابول أسندت إليه مناصب إدارية عديدة منها الإشراف على تطوير نصوص القانون القديمة وإنشاء متحف للفن والآثار التى خرجت من جنبات الإمبراطورية العثمانية والحقيقة أنه يشار إليه فى هذا المجال بالتحديد على أنه مؤسس معظم المؤسسات الثقافية التركية كما أنه أخذ على عاتقه محاربة سرقة وتهريب الآثار التى انتشرت فى تلك الفترة ووضع قوانين صارمة تحارب هذه الظاهرة للقضاء على تهريب الآثار كما بدأ أول حفائر تركية بعد أن كانت بعثات الحفائر كلها أجنبية وأنشأ المتحف القومى التركى وأحرزت بعثته فى العراق تقدما كبيرا فى اكتشاف الآثار البابلية والأشورية.
مات عثمان حمدى بيه فى فبراير 1910 مخلفا وراءه بنية تحتية قوية للمؤسسة ثقافية كبيرة كانت نواة المؤسسات الثقافية فى تركيا الحديثة.