الجمعة 18 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
كوكب تانى

كوكب تانى






حين بحث المُطرب مدحت صالح عن حل لمشكلته مع العالم المحيط صرخ بأعلى صوته «عاوز أعيش فى كوكب تانى» وهو بالقطع لم يتخيل أن هناك «عالم تانى» وإنما هو صرخ مناديا بالمستحيل للتعبير عن أزمته واضطراره للحياة فى كوكبنا.
الحقيقة أن هناك فعلا عالم تانى، وهو ليس عالما خارجيا فى المجرة الكونية بعيدا عن كرتنا الأرضية، وهو ليس أرضا لم تُكتشف بعد ولا جزيرة قابعة فى ركن قصى بعيدا عن الكتلة الأرضية المكونة لعالمنا المجنون «إللى ضج منه مدحت صالح».
الكوكب التانى هو اليابان، دولة «اتقطعت» مرتين فى أربعين عاما، ثم تصدرت العالم فى الأربعين عاما التالية ومازالت حتى الآن، وهى ليست كوكبا ثانيا لأنها الدولة المنطلقة فى سباق البشرية، ولا لما حققته من معجزة بالنهوض من كبواتها المتتالية، وإنما لأنها بالفعل كوكب تانى.
اليابان هى الدولة الوحيدة فى العالم التى فهمت معنى كلمة «خارج الصندوق» التى نطنطن بها ليل نهار فى لقاءاتنا أو فى مؤتمراتنا، بينما تلك الدولة القابعة فى أقصى شرق البشرية  تمكنت من اكتشاف الترجمة الفعلية للكلمة عبر خيال مُنتج وليس خيال السراب.
فى اليابان لا يبذلون الجهد من أجل الكمية وإنما بهدف النوعية، وهم يعلمون جيدا أن التطوير والتحديث كفيل بزيادة تسويق وتوزيع الكميات المنتجة، وهم يعملون بقناعة أن العمل هو وسيلة الحياة، وكلما نجحت فى عملك كلما تحسنت حياتك.
سألنى صديق مرة «هو الناس دى بتحب الحياة كده ليه» وكانت الإجابة لأن الحياة ممتعة اإذا ما تعاملت معها بمنطق الحب، لكنها كريهة إذا ما قررت استغلالها لمصالحك بغير حق، وهناك يستمتعون بالحياة لأنهم يفكرون وينتجون ويبتكرون ويطورون  وكل ذلك لأن المجتمع يمتلك ثقافة صحيحة لمفهوم العمل وقيمة الحياة.
دوما ما يتفرد المجتمع اليابانى بإنتاج خاصة لفئات المجتمع المختلفة، أو توفير أدوات ووسائل متباينة تخدم كل فئة أو جماعة بشرية على حدة، وهم دائموا التفكير فى البدائل مثل وسائل نقل عامة جديدة للتغلب على الازدحام، أو أدوات ورؤى وأفكار للتعامل مع الكوارث الطبيعية أو البشرية المفاجئة لحماية البشر من الاضرار أو للاستفادة من الوقت بدلا من إهداره  فى ما لا يفيد.
حتى فى التعليم هناك أفكار مختلفة غير مسبوقة فى بقية بلدان العالم جعلت من تجاربهم فى هذا الصدد فضاء ً خاص بهم يراقبه الناس ويتابعونه ويسعى البعض لتقليده أو الاستفادة منه، وهو أمر شاق بالغ الصعوبة كونها تجربة محلية مرتبطة بثقافة ذات مواصفات خاصة.
دون الإطالة فى عشرات الأمثلة الاقتصادية والمجتمعية والثقافية والعلمية والتعليمية وخلافه ستظل الإمبراطورية اليابانية  فعلا عالم تانى مختلف عن بقية العوالم، وستظل نموذجا يُروى ويُقدم للبشر على أمه تحطمت وتخربت وانهارت لكنها عادت مرة أخرى.
اليابان «كوكب تانى» ولو الفنان المُبدع مدحت صالح رغب فى أن «يعيش فى كوكب تانى» فيمكنه الهجرة إليه ولكن من دون اصطحاب ضميره معه، فهذا الكوكب له ضميره الخاص قاعدة النجاح والتميز والتطور والتحديث.