أيمن عبد المجيد
تضاعف حقول الألغام.. كيف تعبرها مصر بأمان؟
ما زال العالم يسير فى حقل ألغام، مستقبلًا الربع الثانى من القرن الأول بالألفية الثالثة، بمزيد من الصراعات الجيوسياسية، فى معركة إعادة رسم خريطة نفوذ القوى الدولية.
حقول الألغام تزرعها القوى المتصارعة، سعيًا لحصد مكاسبها بدمار الخصوم وإزهاق أرواحهم، لكن خطرها يمتد لأبرياء لا ناقة لهم ولا جمل من الأجيال المعاصرة والمقبلة.
الدول كما البشر، تفرض عليها مواقعها الجيوسياسية، وأدوارها التاريخية، ومصالحها الاستراتيجية، عبور حقول ألغام يزرعها الأشرار فى دوائر أمنها القومى، ما يستوجب أن تتحسس خطاها، فبين كل خطوة والتى تليها مُستقبل أمتها، مسافات شاسعة بين الأمن والاستقرار والعمار والدمار.
فى دوائر أمن مصر القومى، تتكاثر التحديات والتهديدات وبؤر الصراعات، بيد أن جينات حضارتها وتراكم خبراتها، وثوابت سياساتها، وحكمة قيادتها، تعزز قدراتها على العبور الآمن، تتخذ قراراتها الرشيدة، متسلحة بالصبر الاستراتيجى والشرف والأمانة وقدرة الردع المتنامية.
تراكم الخبرات المصرية، جعلها قادرة على مجابهة أخطر التحديات وتحويلها إلى فرص لتعزيز النفوذ والاستقرار والأمن القومى والإقليمى.
ففى هذه المساحة في 2 يناير 2025، حمل مقالى عنوان «العالم فى حقل ألغام»، متطرقًا لما يتوقع أن يشهده العام من أزمات جديدة وأخرى ممتدة، ومآلاتها، وتأثيراتها على الأوضاع الداخلية فى مصر، وما تحققه مصر من إصلاحات فى مختلف الملفات.
وصدقت الرؤية ونجحت مصر فى تحويل المحن إلى منح، وقهرت التحديات، وفى القلب منها مخطط التهجير الصهيونى، لأهل غزة إلى سيناء، ومحاولات حصار مصر استراتيجيًا عبر تمدد إثيوبيا فى الصومال داخل الإقليم الانفصالى «صومال لاند»، فكان أن طلبت مقديشو مشاركة مصر بقوات فى حفظ السلام، وعززت شراكتها مع مصر باتفاقية دفاعية.
وفى هذا المقال فى اليوم الأول من العام الجديد 2026, نواصل استشراف المُستقبل، انطلاقًا من خبرات الماضى والغوص فى أعماق الحاضر:
أولًا: دوليًّا
تزداد التحديات العالمية بتأثيراتها المُباشرة على الداخل المصرى.
■ الصراع الروسى الأوروبى سيزداد فى أوكرانيا، ومرجح أن يمتد، بما له من تأثيرات سلبية على الاقتصاد العالمى، فهو جولة فى معركة إعادة رسم خريطة النفوذ.. بيد أن مصر عززت من قدراتها الإنتاجية للسلعة الرئيسة الواردة من روسيا وأوكرانيا «القمح»، ونوعت مصادر الاستيراد وضاعفت الرقعة الزراعية.
■ الحرب الصينية الأمريكية ستتصاعد خاصة على الساحة الاقتصادية، فالصين تعزز نفوذها الاقتصادى عبر إضعاف سيطرة الدولار، ومن خلال الشراكات الاقتصادية وأحد أهم آلياتها مشروع الحزام والطريق «طريق الحرير»، الذى تواجهه أمريكا بمشروع طريق «البخور».
بيد أن مصر تنتهج سياسة التوازن الاستراتيجى بما يحقق مصلحة الوطن مع مختلف القوى، فانضمت لمجموعة «بريكس»، وتعزز شراكاتها مع مختلف القوى مع تنامى قدراتها الذاتية.
■ هذا الصراع المتنامى يخلق بؤر صراع جديدة خاصة فى القرن الإفريقى، فإعلان إسرائيل بالمخالفة للقانون الدولى الاعتراف بإقليم أرض الصومال دولة مستقلة، بدعم أمريكى غير معلن، إحدى حلقات الصراع للسيطرة على ممرات التجارة الدولية.
مصر حولت محنة التدخل الإثيوبى فى أرض الصومال إلى منحة، وتضع الآن خطوطا حمراء فى مواجهة العبث الإسرائيلى، فبنت موقفا دوليا رافضا لهذا العبث.
■ لن ينتهى الصراع فى اليمن بسهولة، فالقوى المتصارعة التى تستهدف السيطرة على ممرات التجارة الدولية فى البحر الأحمر خاصة مضيق باب المندب، تستهدف ضفتيه القرن الإفريقى والضفة المقابلة اليمن.
■ الصراع فى اليمن والقرن الإفريقى لا ينبغى أن يستخدم لخلق شروخ فى الجبهة العربية، فما شهدته الساعات الماضية من قصف السعودية لشحنات أسلحة تهدد أمنها القومى، حق مشروع لها، وحسنًا فعلت دولة الإمارات بالاستجابة لصوت العقل.
■ أمريكا قد تلجأ للحرب مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وتضاعف الدين العام فيها، قد يلجأ ترامب إلى حل أزماته من خلال فتح جبهات صراع وحروب عسكرية ومن بينها جبهة فنزويلا.
أولًا: داخليًا:
وحدة وصلابة الجبهة الداخلية المصرية، وتنامى الوعى العام أهم مكونات القدرة الشاملة للدولة فى مواجهة التحديات الخارجية.
وقد نجحت مصر بصلابة وحكمة وصبر استراتيجى وقرارات رشيدة فى عبور أخطر التحديات.
1- وحدة الصف المصرى خلف قيادته فى أزمة العدوان على غزة، عزز من قدرة الدولة فى إحباط مخطط التهجير، وتحويله إلى انتصار مصرى بقمة شرم الشيخ.
2- تنامى وعى المواطن المصرى وإدراكه للتحديات عزز من قدرته على تحمل آلام الجراحات الاقتصادية والإصلاحات الجذرية، ومع تزايد معدلات التنمية إلى 4.6% وبدء جنى ثمار الإصلاحات يتوقع أن يشعر المواطن بتحسن تدريجى فى ظروفه المعيشية.
3- الإصلاحات السياسية والديمقراطية
كان أخطر تحديات العام 2025 على المستوى الداخلى، ما شاب المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية من مخالفات، تصدى لها الرئيس عبدالفتاح السيسى بحزم، عاكسًا الإرادة السياسية الحاسمة لمواصلة مسار الإصلاح الديمقراطى.
وفى الوقت الذى مثلت انطلاقة الانتخابات النيابية محنة، بما شهدته المرحلة الأولى منها، من تشكيك فى صدق تعبيرها عن الإرادة الشعبية، فإن ما اتخذ من إجراءات غير مسبوقة، صحح مسارها وجعلها انتخابات تعبر تعبيرًا حقيقيا عن الإرادة الشعبية.
1- عكست إرادة سياسية حاسمة فى الإصلاح الديمقراطى والتعبير الصادق عن إرادة المواطنين، تجلت تلك الإرادة فى دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى الهيئة الوطنية للانتخابات بصفتها الجهة المستقلة المنوط بها إدارة العملية الانتخابية والبت فى التظلمات، لاتخاذ ما يلزم من إجراءات واتخاذ القرار الذى حمى إرادة الناخبين، دون تردد فى الإلغاء الجزئى أو الكلى حال تعذر الوقوف على تلك الإرادة.
2- تصدت اللجنة العليا للانتخابات للخروقات بحزم، وألغت الانتخابات فى 19 دائرة معلنة جدولًا جديدًا لإعادتها، وهنا فعلت الآليات القانونية للردع أعقبها تنفيذ أحكام قضائية بإعادة الانتخابات فى 30 دائرة، يجرى اليوم انتخابات جولة الإعادة بها بالخارج و3, 4 يناير بالداخل، ما عبر بصدق عن إرادة الناخبين وبعث برسالة طمأنة للمرشحين والناخبين.
3- تفعيل الآليات الدستورية الضامنة لنزاهة العملية الانتخابية باللجوء لمحكمة القضاء الإدارى التى تصدت فى غضون 12 يومًا للطعون، وإحالة عدد من الدعاوى لمحكمة النقض صاحبة البت فى شئون العضوية، وهنا نموذج عملى لفصل القضاء فى النزاعات وتفعيل عملى للضمانات الدستورية والقانونية.
4- تفاعلت وزارة الداخلية بسرعة فائقة مع بلاغات الخروقات خارج إطار اللجان، وقامت بنشر الحالات التى تم ضبطها على صفحتها الرسمية واتخاذ الإجراءات القانونية حيالها وبعض المتهمين صدرت بحقهم أحكام بالحبس.
5- إشراف هيئتى مجلس قضايا الدولة والنيابة الإدارية، مع الالتزام التام بالإجراءات القانونية من تسليم وكلاء المرشحين محاضر الفرز باللجان الفرعية والعامة مع إعلان الحصر العددى، أسهم فى ضمان الحقوق وإثبات أى خطأ وتصويبه.
6- من الطبيعى أن يكون هناك مقاومة للإصلاح من المتنافسين، والقوى الساعية للوصول للبرلمان بغير استحقاق، لكن الأهم ترسيخ حيادية مؤسسات الدولة، وما شهدته العملية الانتخابية من إجراءات رادعة وضامنة للنزاهة والشفافية، وهذا مكسب كبير فى التحول الديمقراطى.
7- وضعت الانتخابات الأحزاب فى اختبار عملى يجعلها تعمل على التواصل مع الجماهير، وتبنى قضاياهم، كسبيل وحيد لتعزيز موقفها فى الانتخابات المقبلة.
8- البرلمان بات أكثر توازنًا وتنوعًا وتعبيرًا عن المواطن، فالأحزاب ممثلة بتنوع قد يتجاوز 15 حزبًا بمقاعد القائمة والفردى، والمستقلون تزايد عدد مقاعدهم للترتيب الثانى على مقاعد الفردى، مع معارضة تعزز من حيوية المجلس.
ماذا يريد الشعب من البرلمان؟
■ دروس الانتخابات النيابية التى شهدت سوابق هى الأولى، ستدفع النواب للالتحام بالشارع والتعبير عنه أكثر من أى وقت مضى.
■ أتوقع أن يشهد مجلس النواب المقبل تفعيلا متناميا للآلية الرقابية، واهتماما بالتشريعات الداعمة للإصلاحات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، التى تصب بشكل مُباشر فى خدمة المواطن.
■ يتوقع أن يشهد العام انتخابات المجالس الشعبية والمحلية، لبناء كوادر سياسية جديدة وتوسيع قاعدة الخدمة العامة للمواطنين، وفى اعتقادى هى ضرورة حتمية.
■ الأحزاب تتطلب مراجعة حقيقية لتفعيل آليات الديمقراطية فى انتخاباتها الداخلية كبداية لإصلاح قدراتها الفعلية فى الشارع.
القضايا المجتمعية
■ تحويل التحدى الرقمى والآثار السلبية من شائعات وطفيليات التيك توك، وغيرها إلى فرصة لإعداد كوادر بشرية تجيد خدمات «التعهيد»، والإنتاج فى منظومة الاقتصاد الرقمى، ويتحقق ذلك بمزيد من التدريب والتأهيل وتعزيز حصون الوعي.
■ مواجهة التحديات الأمنية والظواهر المجتمعية الناجمة عن التطور التكنولوجى فما حدث مؤخرًا من «كائنات التيك توك» كاشف لخطر داهم يتطلب دراسة اجتماعية وأمنية واقتصادية، للوقوف على طبيعة الظاهرة والمشاركين فى صنعها وأهداف من يمول هؤلاء فى شكل هدايا ترسل إليهم.
وهل الهدف صناعة نماذج فارغة تحقق أرباحا سريعة خيالية لتزييف القدوة، والتحريض على الاقتداء بهم؟
■ ما حجم ذلك العالم الغارق فى قاع المنصات الرقمية وكيف يتم معالجة الظاهرة وأسبابها الاقتصادية؟ كيف نحول التحدى إلى فرصة؟
قضية تتطلب معالجة علمية عملية لا تحتمل التأجيل، فما يحدث لا يمكن أن يكون وليد صدفة، هناك من يضخ أموالا لتشجيع هؤلاء وتحويلهم إلى نماذج فارغة تحفز الآخرين للسير على نهجهم، فتتصدر النماذج الخاوية، ويشعر من اجتهد وحصل العلم وحصل على الشهادات باليأس عند مقارنة حاله بحالهم.
■ العنف الذى قوبلت به تلك النماذج من شباب بمحيط قاعة أفراح بشبرا، يكشف زاوية أخرى، فهؤلاء بالأساس جمهورهم الذى يسهم فى صنعهم بمتابعتهم، ومن ثم ما يحدث يخلق عوالم متناقضة، متابعين محبين فى الواقع الافتراضى، رافضين ساخطين فى الواقع، يسعون للانتقام من نموذج غير عادل، فهم يرونهم يربحون بلا استحقاق ولا قيمة، يشعرونهم بعجزهم.
ما أكثرها التحديات التى تواجه الوطن، على مختلف الجبهات الجيوسياسية والرقمية والاقتصادية والمجتمعية، وما أكثرها الإنجازات التى تتحقق.
وتظل مصر بعون الله قادرة على تنمية قدراتها الشاملة بوتيرة أسرع من نمو التحديات، منطلقة من ثوابتها الوطنية والقومية وإدارة حكيمة رشيدة ووعى شعب متسلح بالوعى قادر على صنع المستحيل.
حفظ الله مصر وكل عام وأنتم بخير وسعادة.










