السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
صفاء النجار.. اللعب مع التراث ومساءلته جماليا

صفاء النجار.. اللعب مع التراث ومساءلته جماليا







تسائل القاصة صفاء النجار التصورات الجاهزة في مجموعتها القصصية "الحور العين تفصص البسلة"، والصادرة في القاهرة عن دار "روافد"، حيث لا تلجأ الكاتبة هنا للعب في فضاء التراث والفكرة المستقرة، بل تسعى للعب الفني معه، للخروج من أسر دلالاته المقيدة، ومن سجنه الذي لا ينتهي، ومن متونه وحواشيه، فالشجرة العملاقة يسقط فرعها في حجر امرأة تفصص البسلة، والمجاز هنا يصنع التخييل القصصي بامتياز، ويأتي المقطع المركزي في السرد في نهاية القصة، فيمنحها ألقا جديدا، فلا تبدو عودا على بدء، ولكن تتمة للرؤية السردية التي تسعى للخروج من الصور الذهنية الراسخة.

في "الأميبا" نصبح أمام نص عن تحول الكائنات، وارتمائها في مجرى التكيف العام، فتسحق، وتتسرب كل الأشياء من بين يديها، فتصير مثل الأميبا ليس لها شكل محدد، تعاني العزلة والوحدة والإقصاء، فالفتاة التي تملك جسدا فائرا، وملامح عادية، تحلم دائما بالزواج، حتى تقع في فخ الاستلاب صوب زوج" تنسحق تحت كرشه"، غير أن ثمة شيئا لم يزل يقاوم داخلها، ثمة عصب عار لم يزل يملك قدرة على المجابهة، حتى تصبح قطرات المياه التي تتسرب إلى ردائها الشفاف نقطة تحول درامي في حياتها، حيث تستدعي محبتها المتجذرة لجسدها، وتطيل النظر في المرآة غير عابئة بأحد، وتتماس القصة هنا مع أسطورة نركسوس أو نرسيس الذي يطيل النظر طويلا إلى صفحة المياه حتى وقع في غرام ذاته، وبات يحدق في صورته حتى مات، غير أن النص هنا يُفعل الجوانب الإيجابية في الأسطورة، ويتعامل معها على نحو مغاير، وتصبح محبتها لجسدها استعادة حقيقية لثقتها الضائعة.

تستهل الكاتبة نصوصها عبر لغة سردية خاصة، تتجادل فيها الجمالية والتداولية، وتوظف تقنية كسر الإيهام منذ المفتتح، وتنفذ إلى متلقيها بقوة الرمز، الذي يتسع ويصبح بناء رمزيا متوازيا في قصتي "في انتظار ما قد أتى" و"انتظار من قد يأتي"، وهما قصتان يعتمدان آلية البناء الرمزي المتوازي، فثمة موازاة رمزية لواقع سياسي، على مستوى النص ككل، ففي "في انتظار ما قد أتى" نصبح أمام نص الإحالات ( حكاية وضع الحجر الأسود في مكانه بالكعبة، و حكاية الملك العاري، ومساءلة ذهنية السمع والطاعة، والتسليم وإخفاء الحقائق).

و"في انتظار من قد يأتي" تتواتر الإشارات السياسية، وبدت موازاة الواقع رمزيا طريقة للتعبير الجمالي عن القص، وإن كان يجب تخلصها من أي حمولات سياسية مباشرة.

في الأيام التي لا تطيب" يظل الحلم منتجا للفعل السردي، حيث تتواتر وحدات ثلاث في النص/ الحلم: "المرأة / الطفل/ القطار"، فالخوف مهيمن، و"الهو" بتعبير فرويد مخزن للرغبات المقموعة والخبرات غير السارة والهواجس، والخوف أيضا مهيمن على اللاوعي الجمعي بتعبير كارل يونج. في "العطية" تتحقق الدلالة الكلية للنص عبر تلاحم المقاطع السردية، بدءا من الاستهلال القصصي المروي بضمير الغائب، والذي يشير سارده الرئيسي إلى أسرة صغيرة، بسيطة وملغزة في آن، تنتقل للعمل في الموالد الشعبية، من السيد البدوي إلى الحسين، إلى إبراهيم الدسوقي، إلى الست دميانة إلى العدرا، وهناك أيضا حسونة، وسهاد التي تهيم باسمها الجديد" أم نجاة"، مثلما تهيم بصاحبة الفضل فيه "نجاة"، التي تتواتر الإشارات إلى افتقاد الكيمياء الخاصة بينها وبين حسونة، يمنح السارد الرئيسي متلقيه الحكاية على دفعات، ولا يقدمها مرة واحدة، فالحكاية المركزية( حسونة/ سهاد/ نجاة) تتناسل منها حكايات أخرى، تتصل باختفاء نجاة، وفرح حسونة بغيابها، وحسرة سهاد وبحثها الجاد عنها، وعمن كان سببا في الغواية. يتدخل السارد الرئيسي في تحول تقني لافت في النص، توظفه الكاتبة في استئناف السرد على نحو جديد:" أنا أيضا لم أكن أعرفه، لكني كنت أعرفها،..".

ينهض النص هنا على ما يسمى بالترصيع السردي، فالتناصات العديدة التي توظفها الكاتبة مع محيي الدين بن عربي تارة، وأغاني الإنشاد تارة ثانية، تكشف عن رؤية تصالحية مع العالم، ونظر متسامح للأشياء، ومن هنا بدت تحولات نجاة وصلا لما انقطع، وبدت مبررة دراميا في أعقاب زيارتها لجبل الطير، وهي التي تعلن لأمها:" شيء لا أعرفه يجذبني إلى الأديرة البعيدة،..".

وبدا اختيار دير العدرا بجبل الطير اختيارا غير مجاني، فالمكان الذي مكثت فيه العائلة المقدسة ثلاثة أيام، والذي تحفه الأساطير، والمحاط بجماعات من البشر من مختلف الأديان والأجناس، والمسكون بطبيعة فريدة أيضا تجعل الطيور تحط عليه فتمنحه بياضا مدهشا مرتين في العام، في رحلتها من أوروبا إلى أفريقيا والعكس.

في قصة "ومن أحياها" تتناص الكاتبة مع الموروث الديني، لكنها تصنع تخريجاتها الخاصة، وتتقاطع مساحات السرد وتتجادل بين الماضي والحاضر في قصة "اكتشاف"، بدءا من الاستهلال القصصي وحتى المختتم، و"أيام" هي حلقة الوصل بين ماضي أمها وحاضرها، والمبنى الزجاجي الأزرق فضاء مكاني لحوادث متواترة باستمرار رغم تعدد الأزمنة، والأم ترغب في تحقيق حلمها القديم بالشهرة على يد ابنتها، والانتقالات السردية جيدة وتمنح القصة إيقاعا متناغما، وتنفتح نهاية القصة على نموذج إنساني تعس للغاية، أفقدته قسوة الحياة وخيباتها المستمرة إنسانية الإنسان.

تبدو الحياة في المجموعة أكبر شبكة عنكبوتية، وفي "اللعنة" يقوم النص بنائيا على حوارية رهيفة بين سعاد وزوجة أبيها، منذ المفتتح وحتى الختام،وعلى الرغم من التقاربات التي تبديها المرأة تجاه سعاد إلا أن تمترس صورة قابعة في متن الذاكرة عن الأم الحانية يجعل إمكانية اللقيا بينهما مستحيلا.

ثمة إمكانية بصرية في قصص صفاء النجار، تظهر مثلا في قصة "فيلم لأمي"، وتبدو السينما وسيطا نوعيا يعمق الرؤية السردية هنا، فنرى في النص استدعاء كلارك جيبل، والممثلة والمغنية مارلين ديتريتش، وجيمس دين، حضور فيلمي عيادة كاليجارو، وكلب أندلسي الذي صنع عاصفة من الجدل.

تضفر القصة الأغاني في متن السرد في" فيديو كليب"، وتصبح علامة على ذات رهيفة، ومعذبة أيضا، تبحث عن الموسيقى/ السعادة الخاصة بها.

وبعد.. هذه مجموعة تستحضر داخلها صيغا متنوعة للقص، فتبدو فنتازية حالمة كما في "قوس قزح"، متلمسة عناصر الخلل في المجتمع كاشفة تناقضاته وتدينه الزائف مثل حالة الشيخ في "سيجارة وأربعة أصابع"، تعارض الموروث وتلعب معه وليس في فضائه كما في قصتها المركزية " الحور العين"، وقصص أخرى، كما تقدم موازاة رمزية لواقع سياسي معقد ومتشابك، محتفظة بطرافة العناوين التي تمتاز بها الكاتبة التي صدر لها من قبل أعمال "البنت التي سرقت طول أخيها/ استقالة ملك الموت/ حسن الختام"، مشغولة باللعب مع الأفكار، ومسكونة بنضج فني في كيفيات الكتابة، وتوسيع أفق السرد وتضفير الموروث الشعبي والفنون البصرية في متن القص، مفسحة طريقا أمام الوظيفة التحليلية للسرد داخلها.