الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«بيسارو» شيخ الانطباعيين وشعلة المشهد الطبيعى

«بيسارو» شيخ الانطباعيين وشعلة المشهد الطبيعى






إن التعامل مع المؤثرات البصرية الطبيعية باعتبارها هى الخلفية الممتدة عكس اتجاه المشهد البصرى وباعتبارها أيضا هى الأداة التى يعبر بها المصور عن عمق وطبيعية المشهد التشكيلى يعتبر من أصعب القضايا التى قامت عليها تطور الفنون البصرية فى كل العصور لأن المحاكاة هى فى البداية محاكاة للطبيعة من هنا كان لموضوع تفعيل الطبيعة وتأثيرها على المتلقى من داخل العمل التشكيلى ذاته بحيث تصبح الطبيعة ومؤثراتها هى الطريق الوحيد للتعبير عن أسلوب الفنان نفسه لأن كل منا له رؤيته الخاصة لهذه المؤثرات كعامل أساسى كما قلنا لإبراز تفاصيل قضيته التشكيلية ودعنا نستمع إلى بيكاسو حينما سؤل عن تشبثه فى إحدى مراحله الفنية باللون الأزرق فيما عرف بالمرحلة الزرقاء لما سؤل عن الحكمة من طغيان اللون الأزرق على لوحاته أجاب (بدأت هذه النزعة اللونية عندى حينما أصبت بمرض تنفسى شديد وقضيت فى أحد مستشفيات باريس المتواضعة شهرا كاملا لم يكن لى اى عمل فى هذه الفترة غير التلهى فى متابعة العمل فى المكان وتفاصيله والتنوع اللونى فى هذا المكان من احمر قانى وهو لون الدماء لأبيض ناصع وهو لون الملاءات وملابس الممرضات حتى فى يوم كنت ازور جارا لى فى الغرفة المجاورة وكان رجلا عجوزا مريضا بمرض عضال وكانت تزوره زوجته وابنتاه وأثناء ذلك دخل الطبيب ولفت نظرى أن الرجل العجوز كان شاحبا شحوبا لا يميل إلى اللون الأصفر بل يتعداه لدرجه من درجات الأزرق الفاتح وهنا بدأت ألاحظ ان كل هذا المشهد غارقا فى هذا الشحوب الأزرق كما كان يلعب الضوء الفلورسنتى الخافت دوره فى هذا الشحوب من هنا قفز إلى ذهنى سريعا ان هذه المد الأزرق قد يكون معبرا بشكل او بآخر عن حالة البؤس او المرض او بمعنى أصح التردى.
يبين لنا هذا الرأى الشديد المنطقية منهجا مهما قد نعتمده فى التعبير عن قضيتنا وهى قضية التعبير الذاتى عن المؤثرات الطبيعية لدى الفنان التشكيلي، كما أن السياق الذى يرى فيه الفنان هذا المشهد قد يؤثر على طرحه الإبداعى كما حدث مع بيكاسو فلقد أثرت رؤيته هذه فى فنه حقبه ليست بالقليلة من هنا يجب ان نقول ان المؤثر الطبيعية دوره الكبير فى قضايا الفن التشكيلى ولقد ظل المصورون الأولون فى التاريخ يقومون بطرح إبداعهم بمعزل عن هذا المؤثر الطبيعى وظل هذا المنهج سائدا حتى آواخر عصر النهضة حيث ظهرت بوادر لطرح المؤثر الطبيعى فى فن التصوير محل التجريب، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا انه قبل ظهور الانطباعية لم يكن هناك اى احتفاء بالمؤثر الطبيعى حتى فى المشاهد التى تصور الطبيعة نفسها قد نجدها وكأنها تصور الطبيعة داخل أماكن مغلقه.
وتعتبر الانطباعية هى التى أدخلت تفعيل هذا المؤثر بشكل قوى وملفت فى المشهد التشكيلى بحيث أخذت من انطباع الشمس على الأشياء فى تفاعل تام مع الطبيعة مقياسا لوضوح اللوحة ونفاذها إلى العين بشكل أكثر بساطة مما كان تصوره المدارس السابقة ولدينا اليوم رائد من رواد هذه المدرسة والذى يعتبره النقاد أمثال دوشامب ولوزار وشانتون انه الموجد الفعلى ومحور المدرسة الانطباعية.
لكن قبل أن ندخل لعالمه الجميل والمريح للعين علينا ان نبسط للقارئ ظروف هذه الحركة الفنية المسماة الانطباعية حيث تعتبر الانطباعية نقطة تحول فى تاريخ الفن بل تعتبر بداية الفن الحديث أطلق عليها اسم الانطباعية تسمية بعنوان لوحة للفنان كلود مونيه وهى ( انطباع شروق الشمس ) والتى قدمت فى عام 1874 إلى الصالون الأول لمجموعة من الفنانين الفرنسيين الشباب فأخذت هذه الحركة التشكيلية تسميتها من هذه اللوحة.
كان أول معرض لهذه الجماعة افتتح فى صالة نادار فى نيسان 1874، اشترك فيه سيزان- ودوغا – مونيه – بيسارو – رنوار – سيسلي، وقد أثار هذا المعرض سخرية النقاد واستهجانهم واعتبر المعرض كفضيحة، بل انه سجل هبوط فى أسعار اللوحات ( 500 فرنك مانيه – 50 فرنك مونيه – 31 رنوار – 7 بيسارو ) وصمدت الانطباعية وفنانيها أمام هذه اللحظات الصعبة وتتابعت معارض الانطباعيين ما بين 1876 – 1886، وظهرت أول الكتابات المدافعة عنهم وبعض مظاهر التأييد فى عام 1881، ولم تدخل أعمال الانطباعيين وتقبل فى اللوفر إلا بعد مضى أكثر من نصف قرن من قيام هذه المدرسة .
بدت الانطباعية فى مراحلها الأولى وكأنها امتداد للنزعة الطبيعية ولكنها تميزت بعد ذلك بعدد من الخصائص والصفات التى أبرزت ملامح هذه الحركة . فلأول مرة يصبح اللون الوسيلة الأساسية للتعبير عن الحركة كذلك اعتمادهم فى ألوانهم على ألوان المنشور الصافية المتألقة وهي:- الأصفر – الأحمر – الأزرق – الأخضر – البرتقالى البنفسجي، واستبعد اللون الأسود واللون الأبيض والألوان القاتمة .
كما استخدم فنانو الانطباعية ضربات الفرشاة المجزأة وذلك من إدراكهم وتطبيقهم ما يسمى تباين الألوان، أى تقابل الألوان أو تجاورها قد يولد إحساسات بصرية إيهامية لا وجود لها سوى فى عين المشاهد، فالألوان الحارة تبدو متقدمة، بينما توهم الألوان الباردة بالتراجع، كما قد ينتج عن تقابل لونين من هذه الألوان الشديدة التباين، إحساس بصرى إيهامي، بوجود لون ثالث لا وجود له فعلا .
ولد كامى بيسارو فى سنة 1830 فى شارولت إيملي، سانت توماس احدى الجزر العذراء الأمريكية وبقى فى سانت توماس حتى سن الثانية عشرة ثم سافر إلى باريس ليستكمل تعليمه الثانوى هناك، وكان يأتى إلى سانت توماس فى أوقات عطلته ليمارس هوايته المفضلة فى الرسم. تزوج بيسارو من جولى فيلى وكانت خادمة فى بيت والدته وأنجبا ثمانية أطفال توفى طفل عند ولادته وطفلة فى سنة العاشرة وباقى أطفاله قد رسمهم بيسارو فى لوحاته، وفى عام 1855 سافر بيسارو إلى باريس وأكمل درساته والتحق بكلية الفنون الجميلة والأكاديمية السويسرية. والتحق هناك بمدرسة الفنان كورو حيث بدأ تأثير الأخير واضحا على لوحاته المبكرة، وبعد عام 1859 حاول بيسارو بحظ عاثر أن يعرض بعض لوحاته فى صالون باريس - المعرض الدائم الرسمى فى باريس ولكن بدون جدوى.. وبعد خمس سنوات أرسل للصالون الرسمى لوحته للمنظر الطبيعى حديقة قرب بونتوا التى رسمها كلها خارج الأستوديو أى على الطبيعة، وكان ذلك التقليد غير معروف لدى رسامى المناظر الطبيعية قبل الانطباعيين، الذين كانوا يخططون لوحاتهم للمناظر الطبيعية فى الخارج فقط وينجزونها ويلونونها داخل استوديوهاتهم. وكان بيسارو يحاول آنذاك أن يقنع زملاءه الرسامين من أمثال رينوار، و مونيه، و سيزان، و سيزلى أن يرسموا لوحات المناظر الطبيعية خارج استوديوهاتهم. وكان الناس يقولون عن تدريسه الرسم لطلابه انه مدرس رسم ناجح إلى درجة يستطيع أن يعلم الرسم للحجارة.
وبعد عودة بيسارو إلى باريس سنة (1871) استقر فى بونتوا لمدة عشر سنوات، حيث كان يزوره معظم أصدقائه من الرسامين ويعملون معه. وتميزت لوحاته لتلك الفترة برقة الشعور، ولكنه وأصدقاءه لم يوفقوا إلى عرض أى من لوحاتهم فى الصالون الرسمي، ولذا فلم ير الناس لوحاتهم كما أنهم لم يستطيعوا أن يبيعوها. وكانت نتيجة ذلك أن بيسارو وزملاءه عانوا الفقر والحيرة، ولكنهم لم يفقدوا بسبب ذلك إيمانهم بأنفسهم وفنهم، ونجحوا فى نسيان مشاكلهم فى لجة رسمهم مناظر الطبيعة كما يحلو لهم
وفى خريف سنة 1903 أصيب بجلطة خلال انتقاله لشقة جديدة يستطيع من نوافذها رسم مناظر طبيعية أخرى لباريس. ووافته النية وهو فى الثالثة والسبعين من عمره
ويثور جدال بخصوص بعض لوحات بيسارو هذه الأيام مثل لوحة شارع سان هونوريه التى لازالت المحاكم العالمية تحاول الفصل فى قضية ملكيتها لأحد العائلات اليهودية، وهذا مجرد مثال لأن لوحات بيسارو أيضا تم تهريب جزء كبير منها بشكل غير شرعى من فرنسا فى الأربعينيات والخمسينيات .