الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مكيدة يوسف وهيب وفخاخها المعرفية والوجودية

مكيدة يوسف وهيب وفخاخها المعرفية والوجودية






من نقطة متوترة فى العالم مثل فريسة عصية على القنص رغم المكائد، من زخم الفكرة وهى تقارب الشعر، والحياة، والواقع، من وعى الشعر بذاته وبالعالم، بالأنساق الفكرية والوجود، والتراكمات الحضارية للجماعة البشرية التى ينطلق منها، يأتى الديوان الجديد للشاعر يوسف إدوارد وهيب، والصادر حديثا فى القاهرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة.
يبدو النص هنا مسكونا بالخصوصية الحضارية المصرية، بجذورها البعيدة/ القريبة، بروحها التى تتأبى على الموت والنسيان، ومن جماليات التشكيل الدلالى فى النصوص الأولى «سلام على إبراهيم»، و«تضحية بسيطة»، وغيرهما إلى جماليات التشكيل الفنى فى «إيروتيكا الحر والجوع» و«مراعى ديسمبر» و«رقة المقاتل» و«لمرة وحيدة»، وغيرها.
يحمل الديوان عنوانا دالا(احتفلى بى أيتها المكيدة)، يعد جزءا من المسار الشعرى للقصائد، وجامعا لظلال دلالية وجمالية مختلفة، حيث الاتكاء على صيغة الطلب/ والأسلوب الإنشائى «احتفلى بى»، ثم توجيه الخطاب الشعرى إلى الدال المركزى فى الديوان «المكيدة»، حيث ثمة مكائد متعددة هنا، فمن مكيدة القنص، حيث الفريسة العصية:» احتفلى بى أيتها المكيدة/ بما يليق بفريسة عصية/ وأنصتى جيدا لتفاهات/ أنجح كثيرا فى طمرها/ لا تتصيدى سقطتى على الأرض/ بل اسألى الظل الذى صدمتِه/ هل لا يزال على قيد البكاء». وصولا إلى مكيدة الأسى حيث الفرح الهارب لتحل محله مكيدة الحزن: «أرجوكِ أيتها الجروح/ لا تتعجلى التواصل على رقعة الجسد/ لحظات وستحتفلين مع جوقة القروح والديدان/ بجثة لم تجرح الهواء فى مرورها/ وهى تراقص أحزانها/ فى مكيدةٍ لفرحٍ لم يأتِ».
ثمة تقنية مركزية فى القصائد تتصل بالاستخدام المتواتر للأسلوب الإنشائى بدلا من الخبرى، حيث ينفتح النص على التساؤلات المحتدمة، والأمانى المجهضة، والأحلام النابتة كل صباح وسط القسوة والخراب. هنا سنجد الاستفهام والتمنى والنداء يمثلون صيغا متواترة فى الديوان، من قبيل:» أيتها الوجيعة/ اعترفى مرة بجمائلنا عليك/ ألم نطربك كثيرا بموسيقى التأوهات/ اصرخى أنتِ مرة/ من محاولاتك الفاشلة/ للوقيعة بيننا وبين أجسادنا».
هنا تحفر البلاغة فيما وراء الأشياء، فتحتفى بفكرة الأثر النفسي، حيث يصبح التخييل هنا مرتبطا بالتأثير فى سيكولوجية المتلقي، وتبدوشعرية الصوت واللون، والتأثير فى الحواس على نحو يجاوز المعنى المادى «المحسوسات المادية المباشرة» ،إلى المعنى الرمزى والمجازى حاضرا هنا وبقوة بوصفه إحدى  تمثيلات الدلالة وتشكلاتها الجمالية: «لا تتصيدى سقطتى على الأرض/ بل اسألى الظل الذى صدمتِه/ هل لا يزال على قيد البكاء»؟!.( ص19).
تنهض قصيدة «تضحية بسيطة» على آلية الإسناد إلى ضمير المتكلم «أنا»، وتبدوالقصيدة متخلصة من هذا الوعى الرسولى الذى يعتقد الشاعر فيه بامتلاكه العالم، وبوصفه حاملا للنبوءة، كما تبدوتمثلات الهوية المصرية والذود عنها شعريا حاضرة فى القصيدة المركزية فى الديوان «سلام على إبراهيم»، والتى تحيل إلى القائد إبراهيم باشا ابن محمد علي، بترميزاتها المباشرة أحيانا، وظلالها الدلالية المكثفة، والكاشفة عن المفارقة الضدية بين عالمين(عالم الهوية الوطنية المصرية صاحبة الجذور المتعددة، وعالم الهوية المنغلقة على ذاتها).
يغاير الشاعر موضوعاته المركزية ويلعب على تنويعة جديدة فى قصيدته «إيروتيكا الحر والجوع»، منطلقا من استهلال شعرى يجعل متلقيه فى قلب النص مباشرة حين يحيله إلى العندليب عبدالحيم حافظ، وأغنيته الشهيرة «دقوا الشماسى»، حيث البنات لا ينتظرن قاضى «البلاج» ليفصل فى قضايا العشق والمحبة، فى مغايرة بين الفيلم/ الأغنية، والمتخيل/ النص الشعري، وهى قصيدة تعرف التبدلات حتى تذهب صوب وجهتها، فالونسة المفقودة هى المبتغى؛ لأن الألفة ضائعة، والأجساد وحدها لم تعد تطفئ الحرائق، ولذا تظل الذات الشاعرة باحثة عن ظل ابتسامة حانية من الأم الرامزة إلى فيض من المشاعر الإنسانية النبيلة.
فى قصيدة «مراعى ديسمبر» نبدأ بالزمن وننتهى به أيضا، فثمة زمن للواقع، وثمة زمن آخر للمجاز، أى أن هناك زمنا طبيعيا، وزمنا آخر فنيا:(فى منتصف مارس جمعت الأمهات وقود الشتاء حين أطفأ الآباء محطات الموسيقا)، وفى نهاية القصيدة يلوح ديسمبر من جديد، حيث يبتهج الفلاحون وتجار العسل.
فى «رقة المقاتل» تعرى الذات الشاعرة حالة التناقض والزيف الاجتماعي، تسائل نفسها ومحيطها، وينهض النص هنا على توظيف المفارقة اللفظية والدرامية على مستوى المقطع الشعري، وهى إحدى التقنيات الأساسية التى ينهض عليها الديوان أيضا.
تتواتر تيمة مراجعة الموروث، ومساءلة ثقافة «العنعنات»، ويسعى النص صوب خلخلة الساكن والمألوف فى قصيدة «الرحيق»،  وهذا ما نلمحه أيضا فى قصيدتى «الطريق»، و»إسكندرية».
وفى «إثمار» ثمة رغبة فى هذا الونس المفقود، وفى «وصال» تبدوالروح فى قلب الجحيم الأرضي، فى مفارقة جديدة، تبدوحاضرة أيضا فى نص «كل هذه الحكمة»، الذى يتأسس على تكرار الجملة المركزية (نحن الذين تجاوزنا الخمسين)، ليبنى عليها قصيدته:» نحن الذين تجاوزنا الخمسين/ لا نخلومن اللؤم والحكمة/ من تحت نظاراتنا، يؤرخ العالم لأول مدقات/ عبرت عليها نظرات اللؤم/ وهى تدفع شبابا/ إلى حتفهم فى المعارك/..».
يؤنسن الشاعر الحافلة فى قصيدته «حافلتى»، كما تعد قصيدة «ملح قديم يتبسم برأس طفل» من أعذب قصائد الديوان، حيث المشهدية البصرية الضافية، والمجازات المختلفة.
وفى قصيدته الأخيرة «كائن عربي» نرى وعيا بالانتقالات الشعرية، فضلا عن المختتم الدال الذى يتسق والروح المهيمنة على الديوان حيث تنتفى الوصاية، كما يساءل الشاعر ذلك الراهن المتشبث بأفكار الماضى وتصوراته القديمة مساءلة جمالية.
وبعد.. تبدوالمكيدة مثل رأس طائر خفي، تلوح وتمضي، مثل فخاخ وجودية ومعرفية، هى أكبر من خديعة، لكن الذات الشاعرة تبدومتوائمة معها، فتجد دوما طريقة لخلختها، والسخرية منها، بل التندر عليها أيضا، فى ديوان ينطلق من السؤال حاملا خطابا شاكًّا ومتسائلا من زاوية، ومسائلا لعالم معقد  ومتشابك من زاوية ثانية.