الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
هنرى مور سفير الفن الإنجليزى ورائد مدرسة الحداثة فى النحت الإنجليزى

هنرى مور سفير الفن الإنجليزى ورائد مدرسة الحداثة فى النحت الإنجليزى






لعل الكثير من متذوقى فن النحت يتساءلون دائما عن الفرق بن قطعة فنية شهيرة لنحات عبقرى مثل هنرى مور وبين قطعة حجر متناسقة  ولها شكل غير منتظم فى نفس الوقت.. الحقيقه أن الإجابة على هذا السؤال هى نفسها عقدة حياة عبقرى النحت الإنجليزى ونبتة الحداثة فى النحت العالمى الذى لايزال يعتبر منهجا يحتذى فى بوابة الحداثة و على الرغم من رحيله منذ فترة طويلة فإن أعمال هنرى مور هى نظريات نحتية حية فى الوجدان والتجربة الفنية العالمية .
ولعل قارئنا العزيز عندما يطالع مدارس النحت فى وطننا العربى سوف يجد أن سطوة هنرى مور تقترب من أن تكون طوطما تشكيليا اختاره النحاتون العرب ليضعوا عليه ثوابتهم التقنية والفلسفية حيث يشكل التأثر بأعمال هنرى مور «خاصة فى مجال النحت التطبيقى فى فن الديكور» يشكل أكثر من65 % مقارنة بمدارس أخرى فى النحت العالمى.
أذا أردنا أن نطلق العنان للغوص والتوغل فى عالم هنرى مور الرائع والمميز جدا وجدنا ان عالم هنرى مور هو عالم نحتى خاص به هو فعلى الرغم من تأثر مور بمدارس كثيرة إلا أنه خلص فى النهاية لمدرسة خاصة به و صدرت للأجيال التالية رؤى جديدة فى فن النحت الذى أحيته الحداثة بعد أن قدمت معايير جديدة فى حيثياته وأخيلته من هنا لا نستطيع أن نطلق على هنرى مور نحاتا تجريديا أو نحاتا سرياليا أو غيرها من المدارس الحديثة التى يحلو للبعض نسب هنرى مور إليها وأحيانا نجد أن نقادا كثيرين مثل إيما لرنر يقعون فى خطأ كبير بأن يحسبون هنرى مور على مدرسة التجريد التى ازدهرت فى القرن العشرين والتى بدأ مور ممارسة النحت قبل أن تظهر للوجود بعقدين من الزمان لكن الحقيقة أن هنرى مور استخدم التجريد من تلقاء نفسه بمعايير متزنة وبدون إفراط مثلما فعلت صديقته وزميلته النحاتة الشهيره باربرا هيبورث وهذا المذهب المعتدل فى استخدام الطرح التجريدى وأحيانا السريالى يجعلنا نقول أنه اتخذ مذهبا وسطيا بين المحاكاة المفرطة متمثلة فى النحت الكلاسيكى والمبالغة فى اللعب بحيثيات الكتلة مثل السويسرى  جياكوميتى والتجريد الصرف كما عند جين آرب من هنا تفوق مور على هذه التيارات لأنه خاطب عين المتلقى وقلبه وعقله ولا يدعي انه يخاطب بأعماله عقل المتلقى فقط محاكاة بالطرح الفلسفى فى الفن وعلى الرغم من ذلك فإن أعماله تقدم مضامين فلسفية شديدة الرقى .
حينما تقع عيناك على أحد أعمال مور فإنك قد تميز ببساطة أن مور يسير فى تقنيتين محددتين وهما الاستلقاء والتفريغ بمعنى أن مور يميل فى معظم أعماله إلى الجسد المستلقى أو المرتكز فى معظم أجزائه على السطح والتفريغ بمعنى ان مور عمد إلى خلق محاور فراغية  شبه مغلقة داخل العمل بحيث نستطيع ان تخيل ان العمل الفنى تتخلله عدة ثقوب ... وحيث عبرت عن ذلك أيضا باربرا هيبورث بقولها «يحاول هنرى أن يشعرك بمزيد من الحرية حينما يملأ عمله بالثقوب».
وهناك فرضية شهيرة تفسر مسألة تكرار فكرة الاستلقاء عند هنرى مور وهى أنه فى أثناء زيارته لباريس فى منتصف العشرينيات قد تأثر كثيرا بتمثال شهير يطلق عليه «تشيشين أتزا» وهو تمثال يتبع الفن البدائى فهو أحد مخلفات حضارة المايا الشهيرة هذا التمثال المستلقى أوحى لمور بنظرية الاستلقاء التى اشتهرت بها أعماله لكن الحقيقة أننا لا نستطيع أن نعول على هذه الواقعة فقط فهناك الكثير من الإرهاصات التى تجعل مور يتأثر بالفن البدائى أولها بدايته هو كنحات فى سن صغيرة واستخدامه لموديلات بدائية فى النحت وهذا الميل نحو الفن البدائى هو الذى خلق ذلك النزاع الشديد بين هنرى مور وبين أساتذته فى الأكاديمية الملكية للفنون التى حصل على منحة دراسية بها بعد خروجه من الحرب العالمية الأولى ويعتبر هذا النزاع يمثل الصراع التقليدى بين الحداثة وبين الأكاديميات لأن مور أراد أن يستمد حداثته من الفنون البدائية مثل حضارة المايا ومثل الفن الأتروسكى الذى غاب عن نقاد كثيرين أن مور استمد عدة تقنيات من هذا الفن فنحن نجد أن معظم شخصياته المستلقية فوق قاعدة التمثال المستطيلة تمثل تطابقا مع شخصيات التوابيت الأتروسكية المستلقية فوق غطاء التابوت المستطيل بل ولعل نفس زاوية انحنائة الجسد هى نفس الزاوية التى استخدمها هنرى مور.. واستمر الصراع بين مور وبين الجيل الذى سبقه لدرجة انه بعد ان باع تمثاله الشهير «الأم والطفل» لأحد أثرياء انجلترا الذى وضعه فى حديقة منزله أصبح هذا التمثال مثار الانتقاد من العامة ومن النقاد لمدة ثلاث سنوات تالية.
يعتبر استخدام هنرى مور لفكرة النحت البدائى والفطرى هو الذى جعلنا نشم فى أعماله رائحة الأعمال البدائية مثل «البيسكى كيفالوس» و«الماتيور أيديل» وكلها نماذج من الفن البدائى كانت تستخدم كأوثان تعبر عن الخصوبة والأمومة وغيرهما.
هذا التكنيك حدا بهنرى مور أن يستخدم أيضا تقنيتى التقعير والتحديب ليبسط الفكرة النحتية ويسيطر على الكتلة بحيث تعطى الفكرة المرجوة منها ولن ننسى أن نذكر أيضا أن هنرى مور يقترب بقطعه النحتية التى تبدو عديمة الجنس أحيانا يقترب أكثر لجسد المرأة وربما أيضا تكون هذه النقطة أحد رواسب الفن البدائى التى تأصلت لدى مور.
ولد مور لأب من أصول ايرلندية يعمل مهندسا وأم مدرسة عام 1898 فى يورك شاير بإنجلترا ومنذ أن دخل المدرسة وهو يعشق النحت وتكوين الأشكال بالطين مما جعل مدرسه يعرض عليه أن يلحقه بمدرسة عليا للنحت والفن ويقبل مور حيث إنه قرر أن يصبح نحاتا وهو فى سن الحادية عشرة وربما لأنه كان الأخ السابع بين تسعة أخوات فكان اهتمام والده بفكرة انه سوف يعمل سريعا كان شديدا ومن هنا كره والده فكرة أن يكون مور نحاتا لكنه على أية حال بدأ التدريس فى مدرسته حينما بلغ الـ18  ثم التحق بالجيش وأصيب فى إحدى معارك الحرب العالمية الأولى ونقل للمستشفى وكان فى حاله سيئة مما جعله يتخيل الحرب دائما كائنا بشعا بعد ذلك.
بعد عودته من الحرب حصل على منحة ليكمل دراسته فى الأكاديمية الملكية للفن فى لندن حيث تقابل هناك مع باربرا هيبورث صديقته والتى نالت شهرة أيضا فى فن النحت.
تزوج مور من إيرنا رادتسكى الروسية البولندية وانجب منها ابنته الوحيدة مارى وفى هذه الفترة اهتم مور بالأعمال التى لها طابع أسرى.
وعلى الرغم من مشاركة هنرى مور فنانى الحداثة الأكثر شهرة مثل بيكاسو وجياكوميتى وغيره إلا انه ظل صاحب وجهة نظر فريدة ولم يضع نفسه فى مهب الرياح المدرسية التى تغلغلت فى دنيا الفن فى النصف الأول من القرن العشرين .
حاز على جوائز كثيرة من بينها جائزة بينالى فينسيا الشهيرة واسندت اليه اعمال عامة كثير وضخمة من أهمها مبنى اليونسكو فى باريس عام 1957 وعرضت اعماله فى معظم متاحف وقاعات الفن فى العالم ولاقت قبولا عالميا حيث يوصف بأنه سفير الفن الإنجليزى فى القرن العشرين ومؤسس مدرسة الحداثة فى النحت الإنجليزى.
مات هنرى مور عام 1986 بعد ان أسس بكل ثروته مؤسسة تحمل اسمه لتطوير التعليم والفنون والأنفاق على المشروعات الفنية.