السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
إبراهيم البجلاتى.. الصورة الشعرية وجدل المعرفى والبصرى

إبراهيم البجلاتى.. الصورة الشعرية وجدل المعرفى والبصرى






ينفتح عنوان الديوان الجديد للشاعر إبراهيم البجلاتي، «وماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك»، والصادر فى القاهرة حديثا عن سلسلة الإبداع الشعرى بالهيئة المصرية العامة للكتاب، على سؤال تعجبى ممتد، وربما استفهام استنكارى أيضا، ويمتد السؤال من العنوان إلى المختتم الشعري، ففى المقطع الأخير من الديوان نجده يقول (لماذا لا نلعب لعبة الوداع؟!)، حيث يصير الوداع لعبة قابلة للتأويل وللنظر المستمر من جانب طرفيها، أو من جانب الذات الموزعة المشطورة التى تلوح طيلة الديوان، هذه الذات الشاعرة التى تكشف النصوص عن تصوراتها القلقة التى ترى العالم عابرا: «المهم أن نعتذر / فى الوداعات/ تصفو القلوب/ أو يجب أن تكون صافية/ نغرس دبُّوسا فى عين الحياة/ لعلها بغير هذه الضغينة/ تنطفئ». ( ص 115).
يتشكل الديوان من ستة وثلاثين مقطعا شعريا، تأخذ شكل الترقيم العددي، بلا فواصل ولا عناوين فرعية، وبعض المقاطع تتلاحم فيما بينها، مثل المقطعين السادس والسابع، وبعضها يبدو مستقلا بذاته، منفصلا عن غيره، والنصوص / المقاطع تحيا حالا من الحراك فيما بينها تتيحها بنية المقطع التى تعتمد عليها.
يبدو الرومانسيون واقفين دوما فى منطقة البين بين، وأن تقف فى ذلك البين بين مثل الذات الشاعرة فى المقطع الثاني، فمعناه أن ثمة مأزقا وجوديا يعبر عنه الشاعر جماليا عبر بلاغة بيانية موغلة فى بساطتها، غير أنها تتصاعد تدريجيا عبر الانتقال من البسيط إلى المركب، حيث تحضر الصورة الفنية بمشتملاتها جميعها:» كأنه قدري/ أن أقف دائما فى منتصف الطريق/ كحبة فول فى قصبة هوائية/ ليست محشورة/ ولا تكتم أنفاسي/ فقط تحدث صوتا فى الشهيق وفى الزفير/ حياة ناقصة/ لم تعتنِ بالحزن فى أصيصه العالي/ ولا بالغناءعلى شرفة الليل».(ص7).
يأتى الحضور الأول لأحد مشتقات الصيغة التعبيرية «ماذا يفعل» فى المقطع الثالث من الديوان، حيث يستهل البجلاتى نصه هكذا( ماذا تفعل حين تضبط نفسك/ وأنت تمشى على قشر بيض/ أو بحذر/ فى الصالة الطويلة/ المعتمة- غالبا- حيث بلاطة كبيرة من سيراميك الرخام/ غير مثبتة جيدا/ أحيانا تدوس عليها عامدا/ فتصدر صوتا قلقا/ وأنت الآن/ لا تريد أن توقظ نائما/ لا تريد أن تكسر عظمة فى البيت/ لا تريد أن تصطدم/ ولا أن تقع فى الحب مرة أخرى). فهل الرومانسيون هم أولئك الذين يمشون على (قشر بيض)، حذرين تماما، غير عابئين بصوت ارتطام البلاطة الكبيرة القلقة فى مكانها- مثلهم تماما-، أو أنهم مؤمنون بالعود الأبدى لنيتشة، إنهم رومانسيون غير تقليديين إذن، لكنهم لم يزالوا مثاليين بدرجة ما.
تهيمن ظلال من صور فنية مركبة على مقاطع عديدة فى الديوان، فنحن بإزاء شاعر يهتم بالتركيب الجمالى على مستوى الصورة الشعرية، وأحيل إلى المقطع الرابع تحديدا، حيث تتضافر عناصر الصوت واللون والرائحة، والانتقالات بين الضمائر والأفعال الشعرية المنتجة، والصور البلاغية البيانية، والصور البصرية التى يمكن تخيلها أيضا، ومن جُمّاع ذلك تتشكل صورة فنية مركبة نراها أيضا فى المقطع السادس، والذى يحيل فيه إلى الفنان الراحل الكبير حسن سليمان، فى إيهام بواقعية الحدث الشعري:»لكنها قالت، وأنا أدق المسمار فى الحائط:»أصلية طبعا»./ وقالت أيضا:»إنها لواحدة من نساء حسن سليمان المفقودات،/وهذا توقيعه عليها».(ص15،16).
تحضر الثقافة البصرية فى المقطعين الثامن والتاسع، وخاصة فى الإشارة إلى الممثل الأمريكى الشهير برت لانكستر، وبعض الأفلام، وتنويعات سينمائية متعددة، وجمل سيّارة صاحبت أفيشات الأفلام والإعلان عنها لفترة ليست قليلة، مثل الجملة الشهيرة «أقوى من سنجام» فى إشارة إلى الفيلم الهندى الشهير( سنجام)، وشركة الإنتاج السينمائى العالمية «مترو جولدن ماير» بعلامتها المميزة، والتى يختتم بها الشاعر مقطعه معيدا المتلقى من الخارج إلى الداخل، من الواقعى إلى المتخيل:»هذا العالم الجميل خدعة/ وأنت حزين/ لأن أسد مترو جولدن ماير لم يكن يزأر/ مقيدا كان/ ويحرك رأسه – رغم البنج- من الألم»(ص30).
تلوح الثقافة القرائية، ويلوح كتاب مختلفون هنا، سنرى كونديرا فى خفة الكائن، وجونتر جراس فى سيرته الشهيرة «تقشير البصل»، حيث الطفل الذى نجا بالحياة وبتقشير طبقاتها المتراكمة مثل البصل الذى يجعلنا ندمع دائما.
تتواتر الأسئلة فى الديوان وتتجه صوب الذات الشاعرة نفسها، ويتناص الشاعر مع كافكا وتدوينات تشارلز سيميك فى «المسخ يعشق متاهته»، وجونتر جراس، ولوركا، وفلوبير، وينحو صوب التجريب اللغوى وتفعيل بلاغة التقديم والتأخير، والحذف والتكثيف، مثلما نرى فى مقطعه المركزى التاسع عشر الذى يتوسط مقاطع الديوان وعددها 36 مقطعا كما أشرت، ويأتى فيه على ذكر جملته الشعرية التى يصدر بها عنوان ديوانه:»وماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك؟/ يعرضون قلوبهم المكسورة على حصيرة البحر/ وهى تلمع كدرع حقيقي/ على حائط من الفلين».(ص55).
تتسع الجغرافيا الشعرية فى الديوان لتصل إلى الهند وجزر سليمان وبحيرة قارون، حيث نصبح إما أمام مناطق الحضارات الأولى أو أمام مناطق بكر فى العالم، وكلها اختيارات جمالية محضة عمقتها التجربة الشعورية من جهة، والخبرة المعرفية من جهة ثانية. تتسع الجغرافيا الشعرية وتمتد للتبت مرهونة بإحالات معرفية متواترة، فى تفعيل لآلية الإحالة للمعرفى بامتياز، ويمتد السؤال بطول الديوان منذ المفتتح الشعرى وحتى الختام، ويجدل بين الماضى والحاضر، فيبدو المتلقى معه شريكا فاعلا فى إنتاج الدلالة الشعرية التى ستبدو على بساطتها الآسرة حاملة لطبقات من المعنى تتجدد بتجدد القراءة ذاتها.
يوظف الشاعر البنية الدرامية توظيفا جيدا فى نصه، ويحضر الإيقاع السردى فى مواضع عديدة،  غير أنه يظل محتفظا بماء الشعر وروحه التى لا تفتر.
وبعد.. تتكئ شعرية إبراهيم البجلاتى على المجاوزة والتجاور بين صيغ مختلفة، فيضيف لرؤيته الجمالية عبر كل نص عمقا أشد، ولأدواته الفنية مراسا لا تخطئه عين، ويبدو منشغلا بانفتاح النص الشعرى على المعرفى والحياتي، واعيا بأنساق التحول التى تحكم العالم، فتجعله نسبيا، ومضمخا باليقين المراوغ أيضا، هذا العالم الذى ليس أكثر من خليط من القسوة والمحبة، والمسكون بأولئك الرومانسيين الذين ليس بوسعهم أن يفعلوا شيئا فى مواجهته سوى أن يقدموا الجمال والمحبة والشجن النبيل أيضا.