
حازم منير
جمال عبد الناصر
إذا كان تاريخ مصر لا يغفل زعماء وقادة الوطن عبر التاريخ، إلا أنه يحتفظ بمكانة خاصة لعدد من هؤلاء، وهى مكانة تتجاوز وقائع التاريخ وصفحات الكُتب والمراجع إلى مكانة خاصة فى ذاكرة الشعب وقلوب المواطنين .
من هؤلاء جمال عبد الناصر الذى «نحت» التاريخ اسمه على جدرانه، ومنحه مكانة متميزة، مكانة فرضت نفسها على الجميع وفى مقدمتهم من كرهوه وأدانوه وبذلوا الغالى والرخيص لتشويهه والإساءة له لكن محاولاتهم ذهبت سدى 0
الزعيم أو ناصر وهوالتوصيف والاسم الذى كان الناس يفضلون استخدامه لم يحظ بإجماع الشعب طوال حياته وكانت سياساته وانحيازاته السياسية والاجتماعية والوطنية محل خلاف واسع وجذرى، لكنه فى وفاته وجنازته شهد إجماعا فى الحزن غير مسبوق، حزن عكس حقيقة غير معلنة هى ثقة الناس فى قدرة هذا الرجل على الإنجاز .
كثيرمن الزعماء دخلوا التاريخ وهذا أمر طبيعى، بعضهم مازال فى ذاكرة المصريين بحكم كُتب التاريخ فى المدارس ومناهج التعليم، لكن ناصر دخل التاريخ من باب مختلف اسمه إرادة الشعب الذى منح الرجل شهادة غير مسبوقة نادرا ما يحصل عليها مسئول أوقائد فى هذا البلد .
يميز التاريخ المصرى ثلاثة من حكامه كانوا فى الحقيقة قادة وليسوا حكاما، وهم مينا موحد القطرين، ومحمد على بانى نهضة مصر، وناصر مؤسس الصناعة الوطنية، حيث نجح كل منهم فى صناعة إطار عام لدولة وطنية فى وقت كانت مفاهيم الدولة غائبة أوكانت تواجه حصارا عنيفا ومحاولات مستميتة لإسقاطها.
انحيازات ناصر الاجتماعية منذ اللحظة الأولى بدت فى مشروعه لإعادة توزيع الثروة وبإجراءات الإصلاح الزراعى، وسرعان ما انتقلت إلى الاستقلال الوطنى بمفاوضات الجلاء وتأسيس حركة عدم الانحياز وتم تتويجها بتأميم قناة السويس.
على عكس ما يقوله كارهوا ناصر فإن حرب السويس وانتصار بورسعيد كان مرحلة فاصلة فى تاريخ البشرية أسقطت مرحلة الاستعمار وهدمت امبراطوريات كبرى، وأسست لمرحلة جديدة فى البشرية أظهرت قوة وقدرة الدول النامية فى التوازن العالمى وتوظيف هذا الصراع لصالحها، وهوما جعل من تجربة الرجل لها خصوصياتها وسمات مرحلية محددة.
ناصر صنع تجربة وطنية فريدة من نوعها، وهى فريدة من نوعها لأنها كانت وليدة اللحظة والظروف المحيطة، استثمرت المناخ العالمى، ونجحت فى اختراقه بقوى مستقلة، وتمكنت من صناعة بيئة ثالثة مساوية فى القوى للكتلتين الأعظم آنذاك، وبدلا من أن يقود العالم الكتلة الاشتراكية والكتلة الرأسمالية، أطلت قوة ثالثة أبرزت نفوذ ودور العالم النامى وقدرته فى فرض معادل ثالث لقيادة العالم.
كانت صياغة ناصر لهذه القوة التى فرضت نفوذ الفقراء على الأغنياء هى سر عظمته وعبقريته السياسية، وهى التى منحته هذا الحب الشعبى وهذه الثقة العظيمة، خصوصا أن انحيازاته السياسية والاجتماعية جاءت متوافقة ومتسقة مع الطرح الدولى الذى فرض نفسه على العالم أجمع .
وبقدر قوة ناصر ونجاحه على المستوى الوطنى والعالمى بقدرة قوة المؤامرة الاستعمارية لضرب مسيرة يوليو فكانت النكسة التى كسرت ظهر التجربة، لكن سرعان ما تمكن ناصر من النهوض بالأمة مجددا رغم الخسائر التى حاقت بنا.
دخول التاريخ شيء ودخول قلوب الشعوب شىء مختلف تماما.