الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
إحسان وروزاليوسف اليومية!

إحسان وروزاليوسف اليومية!






على صفحات جريدة «روزاليوسف» اليومية نشر الطالب «إحسان عبدالقدوس» أول مقال له وكان بعنوان «لقد وجدها» فى العدد الذى صدر بتاريخ 13 يناير سنة 1936 ــ أى بعد حوالى عشرة أشهر من صدور الجريدة فى 25 مارس سنة 1935.
الطريف أن مقال أو سطور «إحسان» منشورة فى صفحة «من القراء والكتاب» التى كان يشرف عليها الأستاذ «يوسف حلمى» المحامى أحد ألمع المحررين فى الجريدة، ويكتب مقالًا يومياً بعنوان: «همسة» وكان أحد تلاميذ الفنان المخرج «زكى طليمات» زوج السيدة «روزاليوسف».

وبطبيعة الحال فقد كان «إحسان عبدالقدوس» وعمره وقتها خمسة عشرة عاماً يعرف عن قرب كل المحررين وكبار نجوم الصحافة الذى يعملون سواء فى «روزاليوسف» المجلة أو الجريدة اليومية! وكان من بينهم بالطبع الأستاذ «يوسف حلمى»!
كتب إحسان مقاله القصير وسلمه إلى يوسف حلمى المشرف على الصفحة لينشره ضمن مواد ومقالات الصفحة التاسعة أسفل الصفحة كانت سطور إحسان: تقول بالحرف الواحد:
«شيخ مأفون أخنى عليه الدهر بكلكلة.. لكنه لم ينس بعد أيام شبابه الجميلة وذكريات مغامراته الجريئة.
بحث ليعيد تلك الذكريات وتلك المغامرات.. لكنه بحث دون جدوى.. لقد كان عتياً فى شيخوخته حتى بنات الهوى تأففن منه ولم يرضين بمجاراته وإعادة ذكرياته، لكنه كان يريد المتعة! فجد فى البحث ثانياً وأخيراً وجدها.. وجدها بعد مشقة وطول انتظار!
لقد أعادت له الذكريات.. وطارت بروحه بروحه فى عالم فاق عالم الشباب حسناً ومتعة..
نعم وجدها أخيراً وكانت «بنت ألحان».
فى هذا المقال تخيل إحسان ابن الخامسة عشرة أنه شيخ وراح يرسم أمانى وأحلام هذا العجوز!!
طار إحسان من الفرح برؤية ما كتبه منشوراً وباسمه وتصور أن والدته السيدة «روزاليوسف» ستطير فرحا وحمل الجريدة وذهب إليها ليريها ما كتبه فى جريدتها ويسألها: ما رأيك؟!
يقول إحسان: فوجئت بأمى غاضبة ثائرة وعاقبتنى بأن خصمت مصروفى الأسبوعى الذى كانت تعطيه لى!! قائلة: «مخصوم منك مصروف أسبوع كامل، وكانت تعطينى ريالا كل أسبوع فخصمته منى».
لقد كانت تريد أن تعمل منى صحفياً ولا تريدنى أن أكون أديباً أو قصاصاً!! وهكذا وجدت نفسى أديباً وصحفيا دون تعمد، أديب لأبى وصحفى لأمى، فن واحد لم أرثه من أبى أو أمى وهو فن التمثيل، فرغم أنى كنت أتردد معهما على أجواء المسارح إلا أنى منذ صغرى كنت أشعر بهيبة نحو فن التمثيل كأنى أخافه فلم أحاول أن أكون ممثلاً!».
وحاول الكثيرون من نظار المدارس التى التحقت بها أن يعرضوا علىّ الالتحاق بفرق التمثيل فى المدارس وكنت أرفض وقال لى ناظر مدرسة فؤاد الأول: لماذا يا ابنى لا تريد أن تمثل؟! هل يعقل أن يكون ابن «محمد عبدالقدوس» و«روزاليوسف» ليست لديه موهبة التمثيل؟! وقلت له: لا أستطيع أن أمثل!!».
لقد كانت الكتابة هى قدر إحسان منذ طفولته وقد كان والده سبباً رئيسيًا فى حبه وعشقه للكتابة ويتذكر ذلك بقوله:
أكبر شخص أثر فى حياتى هو والدى.. كان يجلس فى البيت يكتب القصص والأزجال والأشعار، وكان والدى يكتب وأجلس أنا فى مواجهته مقلداً وأكتب أنا الآخر، كتبت شعرا منثورا وزجلا وقصصًا. ولكنها كانت محاولات غير ناضجة.. وأول قصة كتبتها كانت وعمرى حوالى عشر سنين أو إحدى عشرة سنة، وكنت فى المرحلة الابتدائية، وكنت متأثرًا فى كتابتها بما قرأته من قصص روكامبول وأيسين لوبين والفرسان وغير ذلك!
وكتبت أول مسرحية فى حياتى وعمرى عشر سنوات مقلداً والدى وكان عنوان أول مسرحية لى هو «المعلم علم التلميذ طلع شريف» ووصل الأمر إلى جمعت أولاد العائلة والحارة التى كنا نسكنها وبدأنا تمثيل المسرحية وقد قمت بتمثيل دور البطل طبعًا والمخرج وكل شىء!! وفى مشهد كان يتطلب أن أبكى واندمجت فى الدور وبكيت فعلاً وفشلت فى التوقف عن البكاء وكانت مناحة وفشل الدور ومن يومها وأنا أخاف  وأخشى المسرح».
فى سن العاشرة أيضاً انتبه إحسان إلى الأستاذ «محمد التابعى» شريك السيدة «روزاليوسف» فى إصدار مجلتها ويتذكر إحسان قائلاً: «كانت مجلة روزاليوسف تصدر من حجرتين فى بدروم عمارة يملكها الشاعر.. أحمد شوقى» فى حارة جلال المتفرعة من شارع عماد الدين وكانت أجتاز سن الخامسة أو السادسة من عمرى، وكنت أذهب أحياناً لألعب فى بقايا سيارة قديمة مركونة فى جانب من الحارة، وكان يظهر أحياناً شاب طويل رفيع يأتى من بداية الحارة فى خطى سريعة ثم ينزل إلى مكتبه فى البدروم وأحياناً يخرج ويركب دراجة وهو يحمل أوراقاً ويختفى بها ثم يعود وقد لا يعود، وكانت هذه هى أول صورة وعيتها لمحمد التابعى!
وبدأت أقرأ له وأنا فى العاشرة من عمرى وكنت أفهمه هو رغم أننى لم أكن أفهم فى السياسة، ولكن لقوة أسلوبه والنغم المريح السهل الذى يكتب به، وهو ما دفعنى إلى قراءة كل الصحف والمجلات باحثاً عن نفس قوة الجذب»!
وعن بداية اهتمام واشتغال «إحسان» بالصحافة تقول السيدة «روزاليوسف»: حدث أن سافر ــ إحسان ــ فى العطلة الصيفية الإسكندرية وتصادف أن مرض مراسل «روزاليوسف» فى الإسكندرية فجأة فى حين أن النشاط السياسى كله مركز هناك، فاتصلت بإحسان تليفونيا وطلبت منه أن يحاول الحصول على بعض الأخبار وأن يرسلها إلى فورًا!
وعرفت بعد ذلك الوقت ووجد أمامه الدكتور «حسين هيكل.. جالساً فتقدم إليه وحياه ثم قال ببساطة: أنا عايز أخبار»!!
ودهش الدكتور هيكل من هذا التلميذ الصغير الذى يطلب منه أخباراً بهذه الطريقة وقال له: أخبار إيه يا ابنى؟! فقال إحسان: ماما قالت لى: هات أخبار!!»
ويكمل «إحسان»: وضج الجميع بالضحك وتعمدوا أن يعطوننى بعض الأخبار وأمليت الأخبار على والدتى بالتليفون وقررت أن تعطينى جنيهين».
وفى ذلك الوقت بدأ إحسان يكتب من حين لآخر قصة أو حادثة أو خاطرة كانت السيدة «روزاليوسف» تختار الصالح للنشر منها، وتنشره تشجيعاً له بإمضاء «سونة» أول توقيع صحفى له، وكان إحسان وقتها لا يزال يدرس فى كلية الحقوق!!
وفى مايو سنة 1940 تنشر المجلة بروازاً صغيراً من عدة سطور تحت عنوان «ولى عهد المجلة المنتظر» قالت فيه: «تنتظر أسرة هذه المجلة انقضاء امتحانات «الحقوق» على خير لتستقبل ولى عهدها بالهتاف والتصفيق الحاد، والمفهوم أن حلول الأستاذ «إحسان» بالمجلة سيترتب عليه إجراء حركة تنقلات كبيرة بين المحررين والموظفين والعمال أيضاً!! ويمسك بعضهم بطونهم بأيديهم ويقرأون من الآن آيات الكرسى وعدية ياسين».
وإلى أن يستأنف «سونة» إشرافه على شئون المجلة «يتبحبح الزملاء حبتين حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً».
وفرغ إحسان من امتحان الليسانس ــكما تروى السيدة روزاليوسف ــ وعاد من الكلية مسرعاً قبل أن تظهر النتيجة فاحتل مكتبًا فى المجلة وأعلن نفسه رئيساً للتحرير، ولما اعترضت على ذلك قال لى: أمال أنا كنت باتعلم علشان إيه؟! مش علشان أشتغل بدالك وانت تستريحى؟!
وحاولت أن أقنعه بأنه لابد له من بعض التمرين قبل أن يرأس تحرير المجلة ولكنه أبى ورفض أن يعمل إلا رئيساً للتحرير! وكأنه أراد أن يثبت لى أنه يستطيع أن يمضى بمفرده وأنه لا يطالب بذلك لمجرد أنه ابن صاحبة المجلة، فذهب إلى «التابعى» الذى كان يصدر آخر ساعة فالتحق بها وكنت أعطيه لقاء تمرينه فى «روزاليوسف» ستة جنيهات فأعطاه التابع خمسة وعشرين، وكنت أمام دليل قاطع على أن ابنى قد نجح! ولم يبق هناك أكثر من شهرين!
وفى سنة 1945 عاد إحسان إلى روزاليوسف وكتب فيها أول مقال نشر فى الصحف المصرية ضد اللورد كيلرن وقبض على إحسان وعندما خرج عينته رئيساً للتحرير وأقمت له حفلة كبيرة سمحت له خلالها أن يدخن أمامى للمرة الأولى».
وفيما بعد اعترف إحسان عبدالقدوس قائلاً: «كانت والدتى تخاف علىّ من المنصب المبكر، وكانت تخاف علىّ من أن أصل إلى هذا المنصب لأنى «ابنها» لا لأنى أستحقه، فكانت تتعمد أن تمرمطنى وتتعمد أن تقنع كل من يعمل بالمجلة أنى لا شىء ولن أكون شيئًا.
ومرت علىّ أزمات نفسية عنيفة فلم أكن أستطيع أيامها أن أقدر ما تهدف إليه والدتى.. كان كل ما أحسه هو أنى إنسان مضطهد.. وأنى لا أنال من أمى ما أستحقه من تقدير حتى التقدير المادى!!
وتعمدت أيامها أن أكتب فى صحف أخرى لأقنع والدتى بأنى أساوى شيئًا، وأن جميع الصحف ترحب بى وتسعى ورائى!!  فعملت فى دار الهلال وآخر ساعة والمصرى والأهرام والزمان والجرنال دى إيجبت».. وتعمدت السيدة والدتى أن تقنعنى بأن من يكتب فى صحف أخرى لا يصلح للعمل فى «روزاليوسف»!! إلى أن كتبت مقالاً فى روزاليوسف أهاجم فيه اللورد كيلرن ــ المندوب السامى البريطانى  وصودرت المجلة بسبب هذا المقال وقبض علىّ ودخلت السجن لأول مرة، وخرجت من السجن رئيساً للتحرير!!
إحسان عبدالقدوس اسم جاء ليبقى: صحفيًا وأديبًا وكاتبًا!!