السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
فتحى إمبابى وجدارية المشروع الروائى

فتحى إمبابى وجدارية المشروع الروائى






يمثل عُرس (ناصر)، و(درية) إطارا للسرد فى رواية «العُرس» للكاتب الروائى فتحى إمبابي، والصادرة فى طبعتها الثالثة حديثا عن مؤسسة ( مجاز) للنشر، بالقاهرة، وفى «العُرس» يتداخل السياسى والاجتماعي، فدرية المنذورة للموت والفضيحة فى مجتمع ينطوى فى جوهره على جملة من الأفكار الجامدة (المجتمع الليبى ومن خلفه الواقع العربى برمته)، ستُزف إلى «ناصر بوزوي» الذى يبدو حضوره مختلفا فى أسرة بوزوى الليبية، هذه الأسرة التى تعد مركزا للحكى داخل الرواية، حيث تتواتر الحكايات عنها، وتتفرع منها، ويبدو المنظور الروائى هنا مازجا بين الرؤية من الداخل، والرؤية المصاحبة؛ ولذا نجد السارد يعلم أكثر من أبطاله فى معظم مقاطع السرد، ويبدو مثلهم فى معرفته بالحكاية أحيانا، خاصة فى النهاية المأساوية للرواية، حين تحرق العروس نفسها، ويحترق معها أثاثها الجديد.
تعد أسرة بوزوى وتحولاتها علامة على تحولات المجتمع الليبى ذاته، فالأب «مفتاح بوزوي»، يرث ثقافة الرعى من أبيه، غير أن أسرته تنتقل إلى سياق آخر بفعل مجموعة التحولات السياسية والاجتماعية وظهور النفط، لتصبح مؤشرا دالا على الانتقال من النمط الرعوى إلى النمط النفطي، حيث يتخلى الابن الأكبر «عمر بوزوي» عن ماضى أسرته السابق بالكلية.
يتحول كل شىء صعودا وهبوطا مع تحولات النفط والسياسة، فمن القرى والبيوت الضيقة إلى المدن الواسعة والفيللات، وعبر حكاية الأسرة ثمة حكاية لليبيا أيضا، إنها حكاية للتحول النفطى الذى شهدته عدد من البلدان العربية، لكن الرواية لم تكن ساعية لنقد الأنظمة المستبدة التى تحالفت فيها الرجعية مع الفساد فحسب، قدر ما كانت تنذر بتفسخ الهويات العربية وتداعيها، تحت مظلة الصراع الهوياتى المضمر والمعلن، والذى كانت ليبيا مسرحا له فى الرواية فى السبعينيات والثمانينيات تحديدا، ومن ثم يعد اختيار ليبيا هنا اختيارا دالا على المستوى الرؤيوى والفني.
يلوح العُرس منذ البداية، منذ الاستهلال الروائى، ويصحب الشخوص وحركتهم صعودا وهبوطا فى النص، حتى تتداعى الانكسارات المتوالية فتؤذن بانقضاء العرس، أو بالأحرى إلى تحوله إلى مأتم كبير، لن تشيع فيه جثة العروس درية فحسب، المنتحرة هربا من حمل ينمو فى أحشائها، وإصرار وحشى على عادة همجية تتصل بفض بكارتها أمام الجميع، فحينما يدخل فى نهاية الرواية الزوج (ناصر) وأخوها، وعمر بوزوي، وونيس يراقب من بعيد، وفى مشهد يعتمد فى بنائه على آلية الصورة السردية، حيث يلجأ الكاتب إلى التوصيفات البصرية التى يمكن لمتلقيه أن يتخيلها، وإلى أفعال الحركة التى تضفى طزاجة على الحدث الروائي، وإلى التضفير بين الفصيح والمحكي، بين اللغة واللهجة، فى نص شفيف،  يقع فى قلب المأساة، أبطاله مأزومون( ناصر، وحميدة، وونيس، وعمر، ودرية، ومريم، ومصطفى، وصديقة، ومفتاح الشهيبي) ولكن كل بطريقته.
تبدو تيمة الاغتراب بمثابة البنية المهيمنة على الرواية، والاغتراب هنا يأخذ شكلين أساسيين، أحدهما يتصل بالاغتراب الشامل الذى ينفصل فيه الفرد عن البنية الاجتماعية المحيطة به، على غرار ونيس المبتعث إلى ألمانيا لدراسة الطب، والذى يرى تناقضا بين ما يتعلمه وما يراه فى أوروبا وما يحيا فيه فى ليبيا، لكن الأعم فى الرواية شيوع نمط الاغتراب الذاتى حيث يخفق الفرد فى أن يكون ما يريده، فالكل يشعر بحال من الإخفاق الذاتي، هذا الإخفاق الذى يرتبط بإخفاق عام فى النهاية ويتداخل معه فى الوقت نفسه.
فثريا الحالمة ترتبط بعمر المادى الاستهلاكي، وعمر حاز كل شيء إلا نفسه، وفى اللحظة التى ينهار فيها العرس، وتحرق درية نفسها ويحترق معها الطابق الذى تسكنه فى الفيللا الأنيقة، يصرخ عمر مهتاجا لاعنا درية وأباها القواد الذى لا بد وأن يرد كل شيء ويدفع ثمن الخسارة المادية!.
أما ناصر فيبدو حالما بامتياز، قدم كل شيء، وتواطأ ضد نفسه كى ينقذ درية، كان يريد أن تدرك أن ثمة نزوعا إنسانيا لم يزل هنا، مثلما يسير ذاهلا فى المشهد الأخير الذى يبدو نموذجا على بوليفونية الرواية وتعدد أصواتها السردية:»كانت أضواء الفجر الأولى تتسلل إلى مكان فتشيع فيه ضوءا شاحبا.. غمغم: بالأمس كان هنا عرس.. عرس.. خطا هابطا درجتين وأمامه أخذ ينظر إلى المكان».(ص299).
يبدو خطاب كل شخصية هنا عينة أيديولوجية بتعبير ميخائيل باختين، فكل شخصية تكشف عن تصور أيديولوجى للعالم، وهذا التصور يلوح فى قصة مصطفى ومريم اللذين يحملان شغفا مذهلا ومحاصرا فى آن.
تتشكل الرواية من خمسة وعشرين فصلا سرديا تأخذ شكل التلاحم النصى بين مكوناتها، تبدو مثل رحلة صوب بناء عالم عبر تفكيكه أولا، تبدو أكثر من رواية أولى، فالرواية الصادرة فى طبعتها الاولى عام 1980 تكشف عن كاتب ولد فى قلب الكتابة، فخطا بقوة روائى عركته التجربة الحياتية والممارسة الجمالية المتراكمة وخبراتها الممتدة فى إبداع النص الروائى وتطويره باستمرار مرورا برواياته اللافتة: نهر السماء/ مراعى القتل/ شرف الله/ أقنعة الصحراء/ العلَم/ عتبات الجنة، وقد يمكن للقارئ النموذجى أن يتعامل مع المشروع السردى للروائى فتحى إمبابى وفق جدل الاتصال/ الانفصال، فالروايات جميعها يربط بينها قواسم مشتركة على مستوى الصيغ الأسلوبية والعوالم المحكى عنها، ومن ثم يمكنك أن تقرأها جميعها دفعة واحدة، أو تقرأ  كل نص على حدة، فالصبى « حميدة» فى «العرس» سيكبر فى رواية « العلم» ويصير شابا ومناضلا، وونيس تتفاقم أزمته الوجودية ويصير مركزا للسرد فيها، وفى كل قراءة لروايات إمبابى ستقف أمام جملة من النتائج والدلالات التى تكشف عن كاتب يحمل تصورا كليا للعالم، وقدرة فريدة على  تضفير النص بجملة من المقولات الكبرى التى بات واحدا من أهم حراسها فى الكتابة الروائية الراهنة.