الأحد 18 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
وليام أوترمولن.. الفنان الذى نسى ملامح وجهه!

وليام أوترمولن.. الفنان الذى نسى ملامح وجهه!






إن العلاقه بين الفن والذاكرة علاقة جدية وعميقة.. علاقة تزاوج وميلاد وعلاقة لا يمكن فصلها، فالفن يولد كرؤية فى الذاكرة ثم تعيد انتاجه اليد كجنين ولد للتو من رحم الذاكرة.. إذن لا يمكن بأى حال من الأحوال بتر الذاكرة عن العملية الفنية لأن الفن بلا ذاكرة كجنين خارج الرحم لن يعيش طويلا وميلاده مبتسرا أو ميتا شىء مؤكد ومنطقى.. هذا ما نستطيع أن نقوله بكل بساطة كمدخل لعوالم الفنان الأمريكى الكبير والعبقرى وليام أوترمولن والذى تعج عوالمه الفنية والحياتية بأعمال عظيمة وأحاجى غامضة بل وظلال مأساوية قد تخرج بنا إلى خشبة مسرح عبثية تشكل عرضا مستمرا لتراجيديا اسمها المرض والصراع من أجل البقاء بالعقل لا بالجسد.. العقل الذى كان تسلبه الظروف المرضية من أوترمولن يوما بعد يوم بعد أن أصيب بالزهايمر فبدأت الذاكرة تنسرب منه يوما بعد يوم وبدأ أوترمولن صراعه مع انفلات الذاكرة فكان يستيقظ يوميا ليقوم بفعل المقاومة كجند يقف يائسا على عتبة مدينة أوقع العدو بمعظمها.. جندى وحيد يمسك بسلاحه الوحيد ريشته ويحاول أن يحارب النسيان برسم وجهة كطقس يومى.. وكأنه يحاول أن يستدعى ملامحه فى صراع مستميت حتى لا ينسى ملامح وجهه.. بتر الذاكرة أقسى ما يمكن أن يحدث لفنان تكمن كل حياته وانجازاته وعبقريته فى ذاكرته.. حتى استيقظ أوترمولن يوما فى صباح شتائى كالح كلوحات فان جوخ ولم يتسطع أن يرسم وجهه.. سقط السلاح من يده واستسلم لانفلات الذاكرة.. كان ذلك عام 1999 وعلى الرغم من أنه مات عام 2007 إلا أن زوجته باتريشا أوترمولن تؤكد أن اليوم الذى أنتصر فيه الزهايمر على وليام أوترمولن هو اليوم الذى مات فيه رمزيا.. ماتت ذاكرة أوترمولن نهائيا عام 1999 وظل يحيا بالجسد وسط أوهام التيه حتى عام 2007 ففارق الحياة فعليا.
كنت قد قدمت بعض أعماله فى ندوة خاصة بمتحف دى أورسى بباريس منذ أعوام وقدمت عنه ورقة عمل بعنوان – أوترمولن الفنان الذى نسى وجهه – واليوم أعيد الحديث عنه مرة أخرى فهذا الموسم فى باريس خاصة وفى أوربا عامة هناك حركة نشطة لشراء أعمال أوترمولن والذى عانى الكثير كفنان من تجاهل النقاد مع أن زوجته باتريشا أوترمولن من كبار مؤرخى الفن الإنجليز، وبالرغم من أن وليام أوترمولن يعد من بين 20 فنانا فى عصرنا الحديث قلبوا بتقنياتهم ثوابت كثيرة فى فن التصوير والفن التشكيلى.. أوترمولن فنان كل العصور فأعماله تتزاحم فيها مدارس ورؤى وأخيلة وتقنيات أكثر تنوعا من حقل الزهور فى بداية الربيع فلوحاته تضم أحيانا وجوه عصر النهضة ومشاهد المدرسة الرومانسية وتنويعات وألوان البوب أرت وبعض عطور الأنطباعية، أوترمولن هو حقبة منسية وخلاقة من تاريخ الفن التشكيلى العالمى، بل لعله الأكثر دهشة بين فنانى القرن العشرين.
علينا أن نذكر بداية أن أوترمولن والذى كانت لديه أرهاصات لمرض الزهايمر أو فقدان الذاكرة التدريجى منذ أواخر الثمانينيات؛ لكنه لم يتم تشخيصه نهائيا إلا فى عام 1995 ومن هنا بدأ الصراع الفعلى لإبقاء ما سوف يتبقى من ذاكرة فنان عبقرى مثل أوترمولن، كان الهاجس الأقوى الذى يلاحق أوترمولن بعد أن علم بمرضه هو أن ينسى ملامح وجهه، ويقول علماء النفس أن هذا هاجس طبيعى فوجه الإنسان هو رمز وجوده فى اللاوعى، لذا كان أوترمولن يبدأ يومه برسم بورترية شخصى منذ عام 1995 محاولا تحدى الزهايمر حيث بدأ الوجه رويدا رويدا ينسرب مع أنسراب الذاكرة فبدأت الملامح فى التحلل وأصبحت فى النهاية أعضاء الوجه وملامحة شذرية ورمزية مما يشى بأن الذاكرة أيضا عادت به لمذهبه المفضل كفنان بدأ حياته فى مذهب الرمزية، ولم يكن أوترمولن ذلك الولد الوحيد لأثنين من المهاجرين الألمان ينمو ويترعرع فى فيلادلفيا حتى أثبت قدراته الفنية فى المدرسة الثانوية فحصل على منحة دراسية فى أكاديمية بنسلفينيا للفنون الجميلة ودرس على يد ولتر ستامفج والذى كان من فنانى الواقعية المتمرسين وفى عام 1951 رحل أوترمولن فى رحلة دراسية لأوربا فذهب إلى أسبانيا وأيطاليا ومنذ عام 1957 بدأ فى أستكمال دراسته فى مدرسة روسكن للفنون بجامعة أوكسفورد وحتى عام 1959 وفى هذه الفترة تعرف على فنان الانطباعية التجريبية والبوب آرت الأمريكى الكبير كيتاج الذى كان يدرس فى مدرسة متحف أشمولن فى أكسفورد مما جعل البوب آرت يتسرب لبعض أعمال أوترمولن وأثناء هذه الفترة تعرف على باتريشا مؤرخة الفن وأرتبطا فى علاقة انتهت بالزواج عام 1962،د ومنذ عام 1964 بدأ أوترمولن أحد أعظم مشاريعة الفنية وحيث كان الفنانين الكبار فى هذه الفترة يقومون بأختيار أحد الأعمال الكلاسيكية الكبيرة، وينجزون رسومات على منوالها أى أنها تقترب قليلا للرسومات التوضيحية مثل تجربة بيكاسو مع ميتامورفيسوس – مسخ الكائنات – للشاعر الرومانى أوفيديوس وتجربة سلفادور دالى مع الكوميديا الآلهية للشاعر الفلورنسى الأشهر دانتى أليجيرى ،والحقيقة أن أختيار أوترمولن وقع على جزء من الكوميديا الآلهية أيضا وهو الجزء الأول والمسمى الأنفرنو – الجحيم – ويتكون من ثلاثة وثلاثين أنشودة جسدهم أوترمولن برؤيته.