الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
(104 القاهرة) تحولات الزمن والشخوص الثقافة الشعبية ومقاربة العالم

(104 القاهرة) تحولات الزمن والشخوص الثقافة الشعبية ومقاربة العالم






يتسرب الزمن ويتواتر عبر اثنين وعشرين مقطعا سرديا تشكل المتن الروائى لرواية» 104 القاهرة» للكاتبة الروائية ضحى عاصى، والصادرة فى القاهرة عن «بيت الياسمين» للنشر، وتبدو رحلة الشخوص القلقة فى المكان والزمان الروائيين مجلى لارتحالات متواترة فى بنية المجتمع المصري، وتحولات عاصفة تبدأ منذ ثورة يوليو 1952، ووصولا إلى العقد الأول من الألفية الجديدة، فتلوح نكسة الصيف السابع والستين، وتنحى عبدالناصر، والانفتاح الاقتصادي، وانتفاضة الخبز، وغيرها من حوادث دالة فى التاريخ المصرى المعاصر، فتمثل جميعها إطارا للسرد، وحركته المشغولة بالبشر العاديين الموضوعين فى ظروف معقدة ومتشابكة،  كما يتجادل السياسى والجمالى على نحو شفيف، ويضفر السياسى فى متن الفنى كما نرى مثلا فى المقطع التالي:» زاد عدد زوار جدتي، فلم يكن هناك بيت فى الحارة إلا ومنه شاب على الجبهة، إلا منزلنا، والكل يريد أن يعرف هل سيعود من له أم سيموت فى الحرب؟ كيف تستطيع أن تبلغ أحدا أن ابنه أو أخاه سيموت؟ كيف تقول لعروس إنها لن ترتدى فستان الفرح؟ أو لزوجة أن سريرها سيكون خاليا؟ كم كانت نرجس ذكية! وإجابتها الوحيدة أن هناك زغرودة فى الفنجان. وهل يمكن لأى عروس أن تتخيل أن هذه الزغاريد ليست زغاريد سلامة العودة؟ ولكنها زغاريد لحبيبها الشهيد!» (ص35). ويتجادل هذا الزمن القلق بعواصفه وأنوائه وتغيراته المستمرة  مع حركة الشخصية المركزية فى الرواية «انشراح عويضة» من جهة، والأمكنة المتعددة فى النص من جهة ثانية، فتبدو تجليات الزمن على انشراح وعبرها فى آن، وتصبح الأمكنة بتنويعاتها المختلفة علامة على حضورها الإنسانى متعدد الوجوه.  
فى «10 القاهرة» تتحول تلك الحياة العادية لامرأة على الهامش» انشراح عويضة»، إلى متن سردى فى رواية تتسم بالبناء المحكم واللغة النافذة التى تؤسس لمعنى خارجها عبر تعدد الاستخدامات الدلالية، من فصحى كلاسيكية فى السرد، إلى عامية متفاوتة المستوى فى الحوار تبعا للشخوص، إلى مدائح وأمثلة شعبية ومكونات ثقافية ابنة الوعى والوجدان الشعبيين.
تبدأ الرواية من لحظة الفقد، من موت انشراح، التى تبدو أكثر من امرأة شعبية، ويستعيد النص عبر تفعيل آلية (الفلاش باك) حياة انشراح ومعها جملة العلائق الاجتماعية التى شكلتها، وتنتهى الرواية أيضا بمشهد العزاء الذى بدا كرنفاليا بشكل لا يصدقه «حسن كليشنكان» زوج انشراح، الذى يجد جملة من الشخصيات العامة من ساسة، ورجال أعمال، وأكاديميين، وفى العزاء الذى لا يعرف سر إقامته فى المسجد الشهير «عمر مكرم»، وهو البائس الفقير. وهذان الفصلان السرديان الأول والأخير مرويان بضمير الغائب يسردهما الراوى الرئيسى للعمل، بما يعنى أن آلية البناء الدائرى التى توظفها الكاتبة هنا لها صلة وثيقة بطريقة السرد وإدارته وتنظيمه أيضا.
تعد تيمة الإخفاق بمثابة البنية المهيمنة على الرواية، فالإخفاق الذى صاحب انشراح على المسار الحياتى فلم تكمل تعليمها رغم الذكاء المتقد الذى تمتعت به، وحالة الزراية الاجتماعية التى لازمتها لسجن أبيها تاجر المخدرات، والعنف الظاهرى والمكتوم الذى لازم أمها «حياة المناديلي»، والخسة التى تمتعت بها «ليلى» زوجة أخيها «سيد» وخذلان سيد لها، أما على المسار العاطفى فقد فشلت علاقتها بإبراهيم الذى انتظرته طويلا، لكنه ذهب إلى باريس وحده، وتركها تنعم بمعرفة جديدة وبوعى جديد تشكل جانب منه على يديه، غير أن انكسارات مزلزلة للروح مزقتها، فكل شىء سراب، ووحدها «نرجس» التى كانت لم تزل تحكى حكايات الجدات، وإبراهيم الذى يعدها بالحب فيما بعد، ولذا لم يكن من شيء سوى البدء من جديد، حتى لو مع «حسن كليشنكان» الذى يصغرها بأعوام وابن أخت إبراهيم حبيبها الغادر، غير أن انشراح ظلت غامضة فى موتها وحياتها بالنسبة لحسن، الذى لم يعرف كيف للمرء أن يعزف على وتر الروح مثلما يفعل» أشرف» المايسترو الشهير مع انشراح.
يبرز هذا التجلى للإخفاق فى المشهد العام بتحولاته التى تزداد قسوة، فالأوضاع السياسية والاجتماعية تضيق وتقترب بالنص والواقع من أفق الانفجار، فالمحيط الاجتماعى المعبأ بالمشكلات يزداد فى الاتساع منذ السبعينيات وحتى بداية العقد الاول من الألفية الجديدة، كما يتجلى الإخفاق فى حركة الشخوص وتفاصيل حياتهم أيضا على نحو ما نرى مثلا لدى شخصيتى «منال و»غادة». وتبرز فى الرواية أيضا تلك اللغات المحكية وحضورها الدال فى النص، وعناصر الثقافة الشعبية والتناصات مع نصوص أمل دنقل لدى أبطال أوفياء لسياقهم، فضلا عن توظيف المعتقد الشعبى المتماس مع الموروث الدينى فيما يتعلق بعوالم الجن، والعفاريت.
يتجادل صوتان للسرد فى الفصل السابع عشر، أحدهما صوت السارد الرئيسي، والثانى صوت الشخصية المركزية فى الفصل «غادة» ، وكان على الكاتبة أن توظف آلية اللعب على فضاء الصفحة الروائية هنا بإعطاء صوت الشخصية سُمكا مغايرا فى الخط الكتابي، أو شكلا مختلفا.
ثمة دلالة نصية فى نهايات النص تحيل إلى عنوان الرواية، عبر الإشارة إلى عربة دفن الموتى التى تحمل الرقم «104 القاهرة»، فى إطار المزاوجة الرهيفة بين الحلم والواقع فى النص: «رأت كأنها ماتت، كأنهم يحملونها ويضعونها فى سيارة لنقل الموتى مكتوب عليها تحت الطلب 104 القاهرة».
 تبدو مشكلة النص على نحو دال فى وعى الشخصية الروائية «انشراح عويضة» التى تقدمها الكاتبة بوصفها تحوز ثقافات العالم وتختزن الحكمة المصفاة!، وهذا يبدو فى مقاطع عديدة داخل الرواية، بينما نرى مثلا مقطعا فى السرد تتساءل فيه أسئلة سطحية تكشف وعيها الغض، فضلا عن بعض الاستطرادات المجانية فى بعض المواضع داخل الرواية.
وبعد.. تبدو رواية «104 القاهرة» منبئة عن كتابة متناغمة، تحمل طبقات من فهم العالم وتأويله على نحو إنسانى، واسع ونبيل.