الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
جورجيا بين الأساطير الإغريقية وملاحم الأدب فى العصور الوسطى

جورجيا بين الأساطير الإغريقية وملاحم الأدب فى العصور الوسطى






خاص لـ«روزاليوسف» من تبليسى
 

وأبحرت بهم السفينة تشق عباب البحر فى رحلة بعيدة نحو بلاد الجزة الذهبية ، هناك حيث جلبت جزة هذا الشاه المقدس ذو الفروة الذهبية والمجنح الذى أرسلته الآلهة لينقذ الطفلين من بطش زوجة أبيهم ... وعبر بهم الهيلوسبونتس نحو هذه البلاد الطيبة .. ومنذ إذ وفروته معلقة هناك تجلب الخير والرخاء على أهل كولخيس الذين يصنعون من الذهب كل شيء حتى أرديتة كاهنات هيكاتيه الساهرين على إزكاء نيران مذبحها ....
لعلنا لا نستطيع أن نبدأ حديثنا عن أحد أهم البقاع فى العالم من الناحية الثقافية دون الإشارة إلى أصولها التاريخية لذا فأننا أثرنا أن نفتتح كلامنا عن جورجيا زهرة القوقاز الوردية دون أن نسوق وجودها الطريف فى التاريخ والأدب القديم ، هذا النص أحد أشهر النصوص باللغتين اليونانية القديمة والجورجية..

 والنص لكاتب مجهول من القرن 13 عبارة عن جزء من ملحمة الأرجونيتكا التى تتحدث عن البطل الأسطورى اليونانى جاسون ورحلته للحصول على الفروة الذهبية ولكنها ليست ترجمة للملحمة التى كتبها الشاعر السكندرى أبولونيوس الروديسى فى ذات الموضوع بل هى محاولة جورجية بحته لأديب جورجى مجهول من نهاية القرون الوسطى يحاول أن يكتب الملحمة من وجهة نظره ، والمطلوب هنا من استعراضنا لهذا النص أن نعرف القاريء أن جورجيا هى ذاتها مملكة كولخيس التى تتحدث عنها الأساطير الأغريقية وتصفها بأنها المملكة التى تقع فى الجانب الآخر من الأرض وفيها الفروة الذهبية الشهيرة وعلى ما يبدو هنا أن وجود جورجيا القوقازية أو كولخيس كما تشير إليها الأساطير الأغريقية كان وجودها أقدم من بعض أجزاء اليونان نفسها وربما أيضا تشير الأسطوره الى بداية التجارة بين كولخيس – جورجيا الآن – وبين بلاد اليونان القديمة وهذا ما نراه واضحا بشكل كبير فى الآثار الأغريقية والرومانية الموجودة فى المتحف الوطنى والتى تدل على أن العالم الهلينى ثم الهلينيستى فيما بعد كانت تربطه علاقات تجارية وسياسية وطيدة وحتى بعد انتشار المسيحية بل الأكثر من ذلك أن جورجيا ارتبطت ارتباطا وثيقا بمصر المسيحية وكانت تتبع فى طقوسها بشكل أو بآخر الكرسى البابوى السكندرى منذ بداية دخولها للعالم المسيحى ولذا فأننا نجد حتى الآن ان الكثير من الأيقونات المسيحية فى جورجيا مكتوب عليها باللغة القبطية دون الجورجية بل أننا نستطيع أن نؤكد أن جورجيا أستخدمت اللغة القبطية سواء فى التعريف الأيقونى أو فى بعض طقوسها الأرثوذوكسية.

الأمبراطورية الروسية


نستطيع الآن أن نقطع مسافة عدة قرون حتى نستخلص بعض الدرر فى الثقافة الجورجية التى تعتبر بلا منازع سيدة الثقافات القوقازية منذ القرن ال12 وحتى الآن ، ولابد أن نعزو أيضا أن هذا النضج الثقافى كان بسبب الأحتكاك بين الأمارات الناشئة حول جورجيا مثل أزربيجان وتخوم الأمبراطورية العثمانية وايضا الأقاليم التى كانت تحكمها فارس – ايران – فى ذلك الوقت ، وبالطبع كان لهذا الأحتكاك تأثيرة الإيجابى على الثقافة الجورجية التى أمتد أشعاعها فيما بعد حتى روسيا .
فى سابقة جميلة وبعد أن تعرفنا على الدوقة – سالومى شافشافتزى – فى باريس دعتنا لزيارة قصر جدها الشهير بالقرب من بحيرة لوبوتا وعلى الرغم زيارتنا المتكررة لجورجيا وحاضرتها تبليسى إلا أن زيارة هذا القصر له وقع خاص لأنه لأسرة يعتبر عميدها الدوق الكسندر شافشافتزى هو مؤسس الحركة الرومانسية الجورجية وأشهر المترجمين والدبلوماسين فى عصرة وأهم الأدباء ولعله أيضا شكل فى الفترة مابين النصف الثانى من القرن ال18 والنصف الأول من القرن ال19 شكل هذه الحركة التى تميل للأندماج مع روسيا بشكل متوازن أى الأرتباط بالقوة الروسية كحلف عسكرى مع الاحتفاظ بالقومية الجورجية فى كل نواحى الثقافة وكانت لفترة خدمته الطويلة كقنصل لجورجيا فى البلاط القيصرى الروسى دورا فى ذلك بل ان ألكسندر كان منذ أن ولد مهيأ لهذا الولاء حتى أنه تلقى عماده من على يد الأمبراطورة كاثرين الثانية أمبراطورة روسيا ومن ثم أصبحت أمه فى العماد وكان هذا أحد مصادر قوته السياسية بالطبع.

ملكات جورجيا


لكن نعود للوراء عدة قرون لنتعرف على شكسبير جورجيا وأديبها الأشهر والذى يعتبر أحد أهم ملهمى بل هو الملهم الرئيسى للثقافة الجورجية الأصيلة وهو الشاعر الكبير – شوتا روستافيللى – والذى عاش فيما بين القرن الثانى عشر والسادس عشر أبان فترة حكم أقوى ملوك جورجيا أو إذا أردنا الدقة – أقوى ملكات جورجيا – الملكة تمار صاحبة ظلال العصر الذهبى ، ولا يمكن أن نتخيل أبداع شوتا روستافيلى دون وجود الملكه تمار لأنه فى واقع القول كان يبدع من أجلها وبشكل ربما جعل الجميع يستبين حبه للملكة تمار والذى كان حبا يائسا لكونها ملكة كبيرة وهو مجرد شاعر وأديب ومستشار فى بلاطها، وعلى الرغم من كل الألقاب التى لقب بها روستافيللى مثل هوميروس القوقازى وشكسبير جورجيا وشاعر البطولة وما إلى ذلك من ألقاب إلا أن شوتا روستفايللى لم يترك لنا غير عمل أدبي واحد هو درة فى الأدب والثقافة واللغة والتاريخ وهى ملحمته الشهيرة – الفارس الذى يرتدى جلد النمر – وهى الملحمة التى تغنت بها القوقاز قرونا عدة بعد روستافيللى وحتى يومنا هذا وحتى نفهم طبيعة أدب روستافيللى علينا أن نفهم طبيعة عصر وظروف روستافيللى وخصوصا ملهمته فى هذه الملحمة وهى الملكة العظيمة تمار أخر عظماء أسرة باجراتيونى الجورجية الملكية والتى ولدت فى عام 1160 ميلادية للملك جورج الثالث ملك جورجيا القوى والذى لم ينجب غيرها وبالطبع لم يكن من الممكن أن يستمر حكم أسرته دون ذكور لكنه حطم كل القواعد المعروفة آنذاك ورفع أبنته تمار على العرش لتحكم بجانبه مما أوغر صدر النبلاء الذين لن يتقبلوا فكرة أن تحكمهم أمرأه وخصوصا أن عيون هؤلاء النبلاء ذوى النفوذ كانت على عرش جورجيا ومن ثم بمجرد أن رحل ملك جورجا أستعرت حربا سياسية وكيدية ضد تمار حتى تسقط من فوق عرشها وتترك سدة الحكم خالية للطامعين لكنها فى الحقيقة حاربت كأشجع ما يكون الفرسان والسياسين العظماء بل أنها أصدرت قوانين منعت فيها تداول كلمة ملكة بل أطلقت على نفسها رسميا لقب – ملك جورجيا – وعاشت جورجيا فى عصرها رخاء وقوه سياسية وعسكرية ليس لها نظير فى القوقاز حتى أنها هزمت بجيوشها السلطان السلجوقى ركن الدين سليمان الثانى فى ثلاث معارك طاحنة حتى أنه أقسم لأن ماتت الملكة تمار فأنه سوف يخرجها من قبرها ويغتصب جسدها ومن ثم لجأ أبنها الملك جورج الرابع لحيلة وقت موتها وهى أنه اقام لها عدة قبور وهمية وضع فيها أكفان فارغة فى كل أنحاء جورجيا وأصبح مكان دفنها سرا وإلى الآن لا يعرف أحد أين دفنت الملكة العظيمة تمار.

شكسبير

وسط خضم هذه الأحداث وصراع مستميت من الملكة تمار للحفاظ على سلطتها وقيادة جورجيا للأمام ظهر شكسبير جورجيا – شوتا روستافيللى – وكان مثقفا ومتعلما بدرجة كبيرة كان يجيد عدة لغات مما أهلة أن يصبح وزير مالية الملكة تمار ومستشارها المالى وعلى ما يبدو أن روستافيللى وقع فى حب تمار قبل أن يكتب ملحمته الشهيرة والتى تحكى قصة الملكة تمار لكن بتورية ممتعة لأنه بالطبع لم يكن يتسطيع أن يكتب ملحمة يتحدث فيها صراحة عن الملكة تمار على الرغم من ان كل أهل جورجيا كانو يعرفون أنها حكاية الملكة تمار والحقيقة أن التورية وأختيار الشخصيات تقودنا إلى نتيجة حتمية  وهى أن روستافيللى استقى الأسلوب والأحداث من الأدب الفارسى ولدينا أسباب شدية الوجاهة أولهما أن الملحمه عبارة عن 1600 بيت من الرباعيات وهو أسلوب شعرى فارسى بحت ويتشابه فيه البيتين الأولين قافية ويخالفهما البيت الثاث ثم يأتى الرابع فى الخاتمه متوافق فى القافية مع البيتين الأولين مثل رباعيات عمرالخيام النيسابورى والذى مات قبل ميلاد روستافيللى ب 30 عاما هذا السبب الأول ، أما السبب الثانى هو أن الملحمة تتحدث عن ملك عربى وابنته لكن فى الحقيقة مصادر الأدب العربى لم تكن متوافرة لأهل جورجيا فى هذه الفترة إلا عن طريق الأدب الفارسى ومن ثم نجد أسماء الأبطال ليست عربية بالمرة لكنها من الممكن أن تكون فارسية أو سجلوقية أو رومية فالملك العربى الذى يتحدث عنه شوتا اسمه روستيفان وابنته تيناتين وهى بالطبع أسماء ليست عربية بالمره والملحمة تتحدث عن انتصارات وشجاعة الأميرة تيناتين التى لم ينجب والدها الملك أبناء ذكور ومن ثم تخوض معارك كثيرة وتثبت شجاعاتها وجدارتها كملكة وهذا عينه ما فعلته الملكة تمار التى أحبها شوتا روستافيلى حبا جما وكان يطمح أن يرتبط بها لكنه هو ذلك الشاعر الحالم الذى يخدم فى بلاطها وهى محاربة وملكة قوية لذا حينما فشل زواجها الأول من يورى بوجلوبيسكى وأرتبطت بكبير قوادها ديفيد سوسلان فقد روستافيللى ما بقى له من أمل فى أن يرتبط بها وشق عليه وجوده بجانبها ولايستطيع أن يعبر لها عن حبه فأصابه سقام العشق وصار لايحتمل وجوده فى قصر تمار فقرر الرحيل إلى القدس ليدخل سلك الرهبنه ويعتكف فى ديرالصليب الخاص برهبان المذهب الأرثوذوكسى ويموت ويدفن هناك ‘ وهناك فى الدير لوحة من الأفرسك تعرف بلوحة روستافيللى وهى لفنان مجهول من القرن 16 ولقد تلف جزء منها بعد هجوم القوات الأسرائيلية على الدير فى عام 2004 ، لكن أجمل ما يمكن أن نقرأه عن روستافيللى هو مخطوطة باللغة الجورجية تنسب إليه ترجمها أحد الرهبان للأسبانية وتحتوى على خواطر كتبها روستافيلى قبل رحيلة عن الدنيا أخترنا منها هذا المقطع (الأيام تقترب وتقربنا للنهاية .. وخواطرى دائما الرحيل إلى التلال التى تحمل تلك الأغصان المثقلة بالعنب الناضج وهو لن يكون أشهى من هاتيك الكرزتين فى وجهك التى يخطيء الناس وصفهما ويعتقدون انها شفتان .. هل يختار لنا الرب أم نختار نحن طريقنا المكفهر الحزين بعيدا عن من نحب .. أوترى لو ينعم على الرب ثانية بلحظتين فى خدمتك ؟ أو حتى لحظتين اشاهد أثر نعلك على الأرض المزججة بالبنفسج.. سأموت هنا ان آجلا أو عاجلا استأنس وحشة الصلوات بذكرى عينيك).
طبعت ملحمة – الفارس يرتدى جلد النمر – لشوتا روستافيللى لأول مرة عام 1712 بأمر من الملك فاختانج الرابع وتوالت الطبعات بعد ذلك كان أهمها الطبعة التى قام برسومها الفنان الجورجى الكبير سيرجو كوبلاتزى فى ثلاثينيات القرن الماضى، وتعتبر الكثير من الأمثال الجورجية مستقاة من ملحمة شوتا روستافيللى وأشهر هذه الأمثال – لايهم أن تكون أسدا أنثى أو ذكر بل المهم أنك ولدت أسد – ونستطيع أن نستبين بسهولة كيف أنها يرمى إلى عدم أهمية النوع فى الشجاعة والقوة كناية عن الملكة تمار.