
صبحي مجاهد
درجات الصائمين
لا يزال الصوم عبادة السر بين العبد وربه، ولذلك كانت هى طريق التقوى، فثمرة الصوم تأتى فى التقوى حيث يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، فالتقوى هى قمة الإيمان وثمرته وهى جماع الخير والمتقون يصون لمنزلة لا يصل إليها غيرهم، فهم يتقون مالا يتقيه غيرهم، ويبتعدون عن الشبهات مخافة الوقوع فى المعصية.
وحول منزلة التقوى فى الصوم فإن العلماء يرون أن الوصول لأعلى درجة فى الصوم يحقق منزلة التقوى، وفى هذا يقول العارفون بالله «عز وجل» الفاهمون لمعنى الصيام بين صيام العوام، وصيام الخواص، وصيام خواص الخواص، فعرَّفوا النوع الأول وهو «صيام العوام»، بما يفيد فهم المعنى الظاهرى للصيام فحسب، فقالوا: هو حبس النفس عن شهوتى البطن والفرج من طلوع الفجر الصادق إلى غروب شمس ذلك اليوم.
أما النوع الثانى: وهو صوم «الخواص» أو «الخصوص»، فهو مع ما تقدم من حبس النفس عن شهوتى البطن والفرج من الفجر إلى المغرب يكون أيضًا بكف الجوارح عن المعاصي، فيكف الإنسان لسانه عن الغيبة والنميمة، وعينيه عن النظر إلى ما حرم الله، وأذنيه عن سماع ما يغضب الله، ويديه عن أذى الناس، وهو ما يتسق مع المعنى العام للإسلام الذى يعد الصيام أحد أركانه، حيث يقول نبينا «صلى الله عليه وسلم»: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، أما أولئك الذين يصومون عن الحلال ويفطرون على ما حرم الله من المال الحرام أو الطعام الحرام، أو بالنيل من خلق الله غيبة ونميمة فما صاموا ولا انتفعوا بصيام، حيث يقول نبينا «صلى الله عليه وسلم»: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه»، فقد ورد أَنَّ امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى، فَجَعَلَتَا تغتابان النَّاسِ، فذكر ذلك للنبى «صلى الله عليه وسلم» فدعاهما، وأعطى كل واحدة منهما قدحًا وقال لها: قيئى فيه، فملأت كل واحدة منهما القدح من قيح ودم وصديد، فَقَالَ: «صلى الله عليه وسلم»: «إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا، وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، جَلَسَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى، فَجَعَلَتَا تَأْكُلانِ لُحُومَ النَّاسِ»، يقول الحق سبحانه: «وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ».
وأما النوع الثالث: فهو صوم «خواص الخواص» أو «خصوص الخصوص»، وهو كف القلب عن الهمم الدنية والشواغل الدنيوية والإقبال على الله «عز وجل» بالكلية، والتحلى بكل مكارم الأخلاق والترفع عن السفاسف والدنايا، فهؤلاء من يعرفون للشهر قدره، ويدركون له عظيم مكانته، فهم الذين عرفوا، فهم أولى الناس بالتعرض فيه لنفحات ورحمات الله «عز وجل».