افتحوا الشبابيك لشمس العلم والثقافة
التعليم والثقافة وجهان لعملة واحدة تقود أى مجتمع إلى بر السلامة؛ والحديث عنهما حديث ذو شجون.. لكن لابد من طرحه فى وقتنا الراهن؛ هذا الوقت الذى أصبح «التعليم» فى ظلاله مجرد «سلعة»؛ يحصل عليها من يدفع الثمن! والثمن هنا.. لـ«الشهادة الورقية» التى سنقوم عاجلًا أم آجلًا؛ بوضعها داخل «بروازأنيق» لتتصدر منتصف الحائط المواجه لباب «حجرة المسافرين» للدلالة على قيمة ومكانة «المُتعلم» صاحبها!
وبطبيعة الحال لن يسأل من تقع عينيه على تلك الوثيقة: هل صاحبها «مثقف» أم هو مجرد «متعلم» فى بنايات المؤسسة التعليمية.. أو«مراكز التلقين» التى احتكرها «جهابذة السبوبة» فى مصر.
جملة اعتراضية: فى حدود علمى أنه بهذا الطرح؛ فإن أديبنا عباس محمود العقاد.. لم يحصل على هذه «الورقة» من كتاتيب قريته بأسوان.. وهو الذى ارتاد صالونه الأدبى كل جهابذة عصره من الأدباء والفنانين والشعراء؛ من داخل مصر وخارجها!
وهذا المنطق يقودنا بالضرورة إلى محاولة فهم مصطلحى «التعليم» و«الثقافة»؛ وهل يوجد رابط (ما) بينهما، أو ما يسمى عند أهل الفلسفة بالعلاقة الجدلية؟، فـ«المُتعلم» هو من جلس فى مقاعد الدرس والتحصيل ليتلقى ـ أو بالأحرى يتلقن ـ الدروس المنتظمة فى المدارس والمعاهد والجامعات المعتمدة من الجهات الرسمية فى الدولة، وفى نهاية الجولة ـ أو الجولات التلقينية ـ يُمنح صك المرور والإجازة إلى تحقيق التطلعات الإنسانية المشروعة فى الوظيفة والمرتب والشقة والسيارة.. والعروس؛ لأنه سيكون ـ فى نظر الأهل ـ صاحب المركزالاجتماعى بـ«شهادة الصالون» المختومة بخاتم النسرالذهبى؛ والموقَّعة من اثنين من موظفى الدولة الذين لايقل مرتبهم عن عدد معين من «اللحاليح»، وحينئذ.. سيكون صاحب الحق أيضًا فى ارتياد النوادى وعضوية مجالس إدارتها التى لاتشترط الكفاءة و.... الثقافة المعرفية؛ ولن تسألهم الدولة: ما هى أبعاد «الثقافة» التى تدعم علومكم فى مقاعد الدرس.
فالعلم بلا ثقافة سهل الاستدلال عليه، ولكن الثقافة بلا علم ـ أقصد تعليم ـ كأنموذج عباس محمود العقاد؛ الذى قام بتحصيل واستيعاب كل العلوم التى أبحرفى كتبها وأبحاثها وقرأ.. واستوعب.. وهضم.. وأفرز كل تلك الإبداعات التى تركها تراثًا للإنسانية؛ وكان هدفه الذى وضعه صوب عينيه «الثقافة العامة».. قبل الحصول على الشهادة الورقية.
نخلُص من هذا العرض؛ أن الثقافة تعنى صقل العقل والمنطق، وفى أعرافنا ـ نحن المشتغلين بأبحاث اللغة ـ أن لفظة الثقافة تقال لمن «ثقَّف نفسه»؛ أى صار ماهرًا عارفًا بمجاله، واشتقاق اللفظ من «ثقُـف الرمح» أى تم تشذيبه وتسويته فاعتدل واستقام، وهى تنطبق على من أضاف أمورًا جديدة فى مجريات حياته؛ وأعاد تشكيلها بما هوجدير بها من علوم الحياة.. تلك هى الثقافة الحقة التى نأملها فى مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا؛ بإطلاق المهارات وتشجيع النشء على التجديد والابتكار والخلق. ففى البلاد المتقدمة، يتم مراقبة سلوكيات التلاميذ فى المراحل العُمرية المبكرة لمعرفة الميول والهوايات، بل إنهم يقومون بالتوجيه المقنن لكل موهوب فى مجاله؛ بل إنهم يحددون على ضوء المتابعة عدد المهندسين والأطباء والمدرسين والأدباء والشعراء الذين سوف تحتاجهم البلاد بعد خطط زمنية تتراوح بين عشرة وخمسة عشرعامًا قادمة، وهى فى حياة الشعوب مجرد ثوانٍ؛ ولكنها تُرى بالعين الواعية: كيف سيكون حال المستقبل.
ألسنا نحن الأجدر بهذا الإشراف والتوجيه المدروس فى مراحلنا التعليمية؟ بلى.. ولكن لابد من تحقيق الطفرة المأمولة؛ فالتعليم الحقيقى لا العشوائى هو الأرض البكر التى تغرس فيها «أجنَّة البذور» والتعهد بالرى وتنقية الشوائب العالقة؛ لتندفع الشجرة الظليلة إلى عنان السماء؛ ويتم الحشد لكوكبة الرواد والعلماء لوضع الأسس للمناهج التى تعمل على تطوير وإنماء قدرات الإنسان العقلية والمعرفية داخل المجتمع؛ والسعى قدمًا للأخذ بكل أسباب التطورات المتسارعة فى مجال العلوم التكنولوجية، وأهمها حقن ثقافة اللغات الحيَّة كالإنجليزية والفرنسية والصينية واليابانية؛ لتحفيز كل دارس على قراءة كل علم فى لغته الاصلية؛ لأن علوم «الترجمة» قد يكون بها بعض التصرف أوالتقصيرفى الإيضاح للمعنى الأساس؛ فالجمال ـ كل الجمال ـ أن تقرأ الروايات العالمية فى لغتها الأصلية؛ لتعطيك المتعة والثقافة المعرفية للغة أهل صاحب العمل الأدبى، والقياس ليس مع الفارق.. فالثقافة هى الثقافة فى مناحى الحياة كافة.
ورحم الله من كان يتغنى عبر الأثير فى إذاعاتنا ويقول: «افتحوا الشبابيك لشمس العلم.. ياللا»؛ فكانت تلك الكلمات البسيطة المعنى؛ لها وقع السحرعلى العامل فى المصنع، والفلاح فى الحقل، والتلميذ فى مدرسته، والأم فى منزلها، وهى الراعية الًاصلية لكل هؤلاء، فكان مجتمعنا جميلًا بالعلم والثقافة والجمال. واحترم الجميع كل الرموز الثقافية التى علمت الأجيال معنى الثقافة التاريخية بالمحافظة على تراثنا المكتوب منذ آلاف السنين، وعلمتنا الحفاظ على الآثار وهى ما تشهد بعظمة المصرى المرتبط بالجذور التاريخية للحضارات التى نشأت على أرضه، ونتمنى أن نسرع الخطى بالإعداد الجاد للخطط الاستراتيجية للمستقبل؛ والتى لا تتغير بتغيرالأشخاص؛ فتلك آفة المجتمعات غير السويَّة؛ ومن جرائها نعود دومًا إلى نقطة الصفر.. لنبدأ من جديد.
من الآن فصاعدًا.. نود أن يكون وجهى العملة الحضارية فى حياتنا هما: التعليم والثقافة. أما الإعلام فذاك له حديث آخر فهوالوجه الثالث المتمم لهما!.