المهاتما «غاندى».. والتمرد السلمى وحديث الروح!
عندما يستظل الجسد بسحابة الروح الشفافة؛ المحلِّقة فى سماء التسامح والتصالح النفسى مع الذات والاعتزاز بكرامتها؛ يستطيع أن يتنفس إكسيرالحياة بأقل القليل من الزاد؛ وأقل القليل من الكساء لستر عورته، ولكنه فى الوقت نفسه يكشف الكثيرـ لكل منصفٍ ـ عن نقاء عقل وفكر ووجدان صاحبه؛ بل يدفعه هذا النقاء والاعتزاز بالذات والإيمان بحرية الوطن والمواطن؛ إلى مقارعة أعتى جهابذة السياسة من المستعمرين بقنديل الروح الذى أضاء له عتمة الطريق .. لينتصر!
عن نقاء روح «المهاتما غاندى» الإنسان ومفهومه الصحيح للدين والعقيدة.. أتحدث، وليس عن «غاندى» السياسى البارع المحنَّك الذى استطاع بجسده النحيل أن يهز عرش الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، وهو الجانب الذى أضاء لنا جوانبه الدكتور» محمد الباز» فى إحدى حلقات برنامجه الرمضانى» على باب الله»؛ والتى استطاع فيها من خلال تحليله المنطقى العميق أن يلفت أنظارنا بشدة إلى هذا النموذج الفذ الذى طاف بأجنحته الفكرية والروحية كالملائكة بسماء الحياة فى الهند؛ التى انتزع لها الاستقلال والحرية بعد طول ظلم ومعاناة وجبروت من الاستعمار الإنجليزى، ولكن «الباز» يقول لنا إن بَنى البشر جميعًا بداخلهم تلك القناعة الراسخة بكُنة العلاقة بين الله وعباده؛ وعليهم ـ فقط ـ استمرار توهُّج جذوتها ولا تخبو على طول الزمان؛ وإنهم لابد أن يؤمنوا كما آمن «غاندى» ـ برغم عقيدته الهندوسية ـ بما جاء على لسان السيد المسيح عليه السلام فى «موعظة الجبل» إذ يقول:
«طوبى للمساكين بالروح.. لأن لهم ملكُوت السموات. طوبى للحزانى. لأنهم يتعزُّون. طوبى للودعاء. لأنهم يرثون الأرض.. طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون.. طوبى للرحماء.. لأنهم يرحمون.. طوبى للأنقياء القلب.. لأنهم يعاينون الله (متى1 : 3 -8).
ومن الإنصاف لهذا الزعيم الروحي؛ أن نلقى بعض الضوء على ظروف نشأته وتحولاته الإنسانية الإيجابية؛ وألا نتغاضى عن كيف استطاع أن ينتزع بسلوكياته المثالية لقب «المهاتما» أى «الروح العظيمة»؛ وهو اللقب الذى أطلقه عليه شاعر الهند الخالد «رابندرانات طاغور».
والغريب فى حياة هذا الزعيم ـ كما تقول سيرته بتصرف ـ أنه ولد فى أسرة ميسورة الحال من أب يعمل فى السلك الدبلوماسى، وأمه امرأة شديدة التدين منتظمة الصيام، فشبَّ «غاندى» عابدًا للإله الهندوسى «فيشنو» وهى ديانة هندية قديمة تتبنى مبادىء اللاعنف والصيام والتأمل والاعتماد على أنظمة الأغذية النباتية، وهذا ماجعله يؤسس ـ فى شبابه ـ حركة «ساتياجراها» أى التمرد السلمى بلا عنف ولا صدام ولا إراقة للدماء بين بنى وطنه؛ واستخدمها ببراعة فى مواجهة السلطات المستعمِرة لانتزاع الحرية للهند.
ولكنه عمل بالمحاماة وثقف عقله وروحه؛ وفى أثناء دراسته العلمية فى لندن تمعن فى قراءة الإنجيل مستلهمًا منه مواعظ كثيرة فى الأخلاق والسياسة.. ولكنه وجد نفسه مجبرًا على مواجهة العنصرية؛ حين تعرض فى الرابعة والعشرين من عمره للاضطهاد من ركاب الدرجة الأولى فى قطار بجنوب إفريقيا، وهو لا علم له بأن القوانين العنصرية تحرِّم عليه ذلك؛ وقد أبلغ أحد الركاب البيض عنه.. وبالرغم من دفعه ثمن التذكرة؛ فقد تم طرده عنوة من العربة، فكان الشعور بالإذلال والمهانة الذى انتابه جراء ذاك الحادث؛ هو نقطة التحوُّل الجذرية التى دفعته إلى النضال من أجل حقوق الهنود الكثر فى جنوب إفريقيا حينذاك.
ولكن كيف يتخلص من الاحتلال .. بلا صدام أو إراقة دماء؟
لقد وهبته القوة الروحية التى اكتسبها بالعزيمة والممارسة؛ والتى يقال إنه اقترب فيها من الروح الصوفية للعقائد المختلفة كافة؛ فقام بتنظيم مسيرات العصيان المدنى «اللاعنفي» حينما كان محاميًا مغتربًا فى جنوب إفريقيا، فى الفترة نفسها التى كان المجتمع الهندى يناضل خلالها من أجل انتزاع بعض الحقوق المدنية.. وبعد عودته إلى الهند قام بتنظيم احتجاجات من قبل الفلاحين والعمال فى المناطق الحضرية ضد ضرائب الأراضى المفرطة والتمييز فى المعاملة وأشهرها ما أطلق عليها «مسيرة الملح» التى فرضتها السلطات البريطانية على منتجى الملح! واستطاع بعد توليه قيادة المؤتمرالوطنى الهندى، تنظيم حملات وطنية لتخفيف حدة الفقر، وزيادة حقوق المرأة، وبناء وئام دينى ووطنى، ووضع حد ا للنبذ والتطرف العنصرى الذى عانى منه، وعمل على الاعتماد على الذات اقتصاديًا؛ والوصول إلى تحقيق استقلال الهند من السيطرة الأجنبية .وخلال رحلة الكفاح والنضال تلك؛ ذاق غاندى مرارة السجن لعدة سنوات فى كلٍ من جنوب إفريقيا والهند.
كانت قوته الروحية المكتسبة من التصالح مع النفس وسائر البشر أصحاب المعتقدات المذهبية التى تعرف متانة وصلابة الإيمان بـ«أبانا الذى فى السموات» الذى تعبده كل النفوس المؤمنة، فيقولون إنه كان يقوم بأداء طقوس الصلاة بآياتٍ من العهد القديم والإنجيل والقرآن!
ولأنه آمن إيمانًا مطلقًا بأن «الأخلاق» أساس كل شىء؛ وأن «الحق» هو أساسها، دعا إلى أن يفعل الآخرون الشىء ذاته، ولأنه مارس حياة التقشف والزهد فى مجتمع فقير يعيش على الاكتفاء الذاتى، ولأنه ارتدى الشال الهندى التقليدى من نسيج يديه على المغزل! وأمام كل هذا الرقى والنبل .. ولأن الأرهاب و«خوارج» كل العصور؛ ليس لهم دين أو شرف أو ملَّة ولا يحترمون عقيدة أو مذهب .. كانت النهاية بثلاث رصاصات فى صدره من أحد المعارضين لمسيرته؛ ليُقتل على يد الغدر والغادرين؛ كما قُتل كل أصحاب الرسالات العظيمة فى التاريخ القديم والحديث.
لقد استطاع د.محمد الباز فى برنامجه المهم؛ أن يمنحنا الفرصة للإطلالة على واحدٍ من أصحاب الرسالات العظيمة بين بنى البشر؛ وأن يذكِّرنا بما يجب أن تكون عليه علاقاتنا من صفاء ونقاء؛ ليفتح الله لأرواحنا أبواب السماء لتحلق على عتبات «سدرة المنتهى» مع الأنبياء والقديسين والشهداء، فخيرا فعل مع صاحب مقولة : لا أعرف خطيئة أعظم من اضطهاد بريء باسم الله!.... لا تعليق وراء هذه الكلمات البسيطة لأعظم زعماء القرن العشرين الروحيين الذى أزهقت ألعاب الساسة باسم الله حلمه الأكبر: استمرار وحدة الهند، التى مزقوها إلى ثلاث دول باسم الله مع عشرات الآف من الضحايا الأبرياء .. هذا كله باسم الله والاتجار بالدين فى بلد تعددت أديانها.
وانتهى حديث الروح!