الأحد 21 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
عبقرية «30 يونيو» فى النوبة

عبقرية «30 يونيو» فى النوبة






قادمًا من منابعه الأصلية.. يمشى نهر النيل على موعد مع التاريخ، على موعد مع أصل الحضارة، تدخل مياهه أرض مصر بسلام، لا تكتسب صك مصريتها الأصيلة ومذاق عذوبتها إلا بخاتم النوبة المصرية.
من النوبة تتدفق مياه النيل تمشى الهوينى تروى ربوع الوطن وتمنحها الحياة مغلفة بطبقة «السمار النوبى» التى تحميها وتحفظ هوية مذاقها، فتصل إلى الوادى غير آسنة ولم يمسسها سوء، أصوات المياه الهادرة تحكى قصة حياة لا يفهمها إلا المصريون، الحكاية تقول إن فى النوبة أصل الحياة وأصل الحضارة وأصل الوطن.
فى النوبة تظهر عبقرية مصر.. عبقرية التنوع المتموضع داخل جسد الوطن المصرى، عبقرية الاختلاف الذى يمنح قيمة مضافة لوطن قدره أن يكون عنوانًا للتاريخ ونقاط ارتكازه.
عبقرية التنوع كانت بابا من أبواب النصر والعبور عام ٧٣، بينما تستمر العبقرية لتضيف رصيدًا من التراث والفنون يثرى الهوية الأصيلة.
على قدر العبقرية تكون الأصالة، وعلى مدار سنوات بينما كان المتربصون يظنون بأهل النوبة الظنون محاولين العبث فى الهوية واختراقها، بينما كان النوبيون يتمسكون بمصريتهم الأصيلة، على قدر العبث على قدر ما كان تمسك النوبيين بحقهم فى وطنهم الأم.. تلك هى العروة الوثقى لا انفصام لها.
■ ■ ■
 منذ مطلع القرن العشرين وفى الوقت الذى بدأت فيه حركة التنمية المصرية راحت أطراف تراكم أزمة مخلقة فى النوبة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ظنًا أنه يمكن اختراق وحدة النسيج المصرى.
بينما كانت تتم عملية تعلية خزان أسوان كانت عملية مقيتة تتم لتعلية منسوب الغضب داخل النوبيين، فى الوقت الذى كانت مصر تشيد السد العالى كانت أطراف الشر تحاول بناء سدٍ بين أهل النوبة وبين وطنهم مصر.
عموم الفكرة أراد أن يرتكز على أن حركة التنمية الاستراتيجية هى إيذاء مقصود من الدولة للمواطن النوبى باعتباره مصنفا كمكون مهمل فى التركيبة الاجتماعية المصرية، لكن تمسك النوبيين بحقوقهم على مدار الأجيال المتعاقبة، وتعالى أنينهم ونداؤهم على الدولة المصرية لم يكن إلا دليلًا على رسوخ الوطنية لديهم، بعدما ظلت مصر قبلتهم الوحيدة لا يطوفون حول سواها، أملا فى نيل المطالب المشروعة والحقوق المغيبة.
سنوات تمر دون استجابة، ليالٍ من الألم تنقضى والعهد فى الليالى القسوة، برغم قسوة التجاهل والتهميش كان المكون النوبى الأسمر شديد الوضوح فى لوحة الوطنية متنوعة الألوان التى أعادت رسم وجه مصر فى ٣٠ يونيو.
■ ■ ■
 بينما وقف السيسى يتلو خارطة الطريق مستهلًا خطاب الوطنية التاريخى عشية ٣ يوليو فى عام ٢٠١٣ بالتأكيد على أن القوات المسلحة لم يكن فى مقدورها أن تصم آذانها أو تغض بصرها عن حركة ونداء جماهير الشعب المصرى الغفيرة، فإن دولة ٣٠ يونيو أبدًا لم تكن لتتجاهل أنين النوبيين ونداءهم على مصر.
مطالب النوبيين عنوان ساطع لعبقرية ٣٠ يونيو.. حيث دولة المواجهة والحقيقة.
أبدًا لم يغفل السيسى عن مطالب أهل النوبة، لم ينجرف نحو استخدامها من أجل مداعبة انتخابية قصيرة الأجل، من علياء منصب الرئاسة الرفيع الآن يخفض السيسى جناح الذل من الوطن أمام أهل النوبة من واقع إحقاق الحقوق وليس تحقيق المطالب.
على موعد مع الحقيقة.. يقف السيسى أمام أصحاب الحقوق مرتكزًا على قاعدة المؤسسية الدستورية لإعطاء كل ذى حق حقه.
فى دولة ٣٠ يونيو لا تضيع الحقوق، فى دولة ٣٠ يونيو فقط تتبلور المسئولية فلا يترك أهل النوبة على المشاع.
■ ■ ■
 منذ اللحظة الأولى كانت مشكلة أهل النوبة فى مقدمة التكليفات الرئاسية للحكومة بضرورة الإنهاء الجذرى لتلك المشكلة.
التوجيه الرئاسى دخل حيز الواقع بصدور قرار مجلس الوزراء رقم ٤٧٨ لسنة ٢٠١٧ بتشكيل لجنة داخل وزارة العدل لحصر أسماء المتضررين الذين لم يسبق تعويضهم عند بناء وتعلية خزان أسوان وإنشاء السد العالى، لينطلق على الفور عمل اللجنة فى فحص وتدقيق عشرات الآلاف من الطلبات المقدمة لها وفتح باب التظلم المتكرر أمام من لم يدرج اسمه.
على قدم وساق استمر عمل اللجنة لإعداد الحصر النهائى للمستحقين لتؤكد الدولة جديتها فى إحقاق الحق وصولًا إلى قرار مجلس الوزراء رقم ٣٧١ لسنة ٢٠١٩، بتشكيل اللجنة الوطنية لوضع قواعد وآليات تنفيذية لصرف التعويضات للمستحقين.
اللجنة رفيعة المقام برئاسة وزير شئون مجلس النواب المستشار عمر مروان.
اللجنة التاريخية التزمت بأسماء المستحقين الذين حددتهم وزارة العدل، ووضعت قواعد لصرف التعويضات لثلاث فئات:
الأولى: المتضررون من بناء وتعلية خزان أسوان ممن فقدوا مساكنهم وأقاموا مساكن على أراض بمحافظة أسوان دون تقنين أوضاعهم، حيث سيتم تعويضهم عينا من خلال تمليكهم الأراضى التى قاموا بالبناء عليها أو منحهم حق الانتفاع بها.
الثانية: المتضررون من إنشاء السد العالى ممن فقدوا أراضى زراعية وسيتم تعويضهم بأراض أخرى قابلة للزراعة مساوية لمساحة الأرض المفقودة، مع الاحتفاظ بحق المتضرر فى الحصول على دعم نقدى بقيمة خمسة وعشرين ألف جنيه للفدان.
الثالثة: المتضررون من إنشاء السد العالى ممن فقدوا مساكنهم، وسيعوض مالك المسكن الواحد بمسكن داخل أو خارج محافظة أسوان، وللمتضرر الحق فى الحصول على تعويض مادى بدلا من المسكن بقيمة مائتين وخمسة وعشرين ألف جنيه.
■ ■ ■
 اللجنة بدأت عملها بالفعل فى الخامس والعشرين من شهر يونيو المنقضى وأتاحت مقرا لها بجامعة أسوان فضلا عن المقار الفرعية التى تحددها المحافظة ويمتد عملها لمدة ثلاثة أسابيع.
اللجنة تعمل وفقا لمعايير مؤسسية منضبطة وتتلقى الطلبات من المستحق أو من الممثل القانونى لورثته، فلا تموت الحقوق فى دولة ٣٠ يونيو ولا تسقط بالتقادم أو بالتجاهل.
عقب انتهاء عمل اللجنة وفى غضون عشرة أيام سيتم الإعلان عن أسماء المستحقين المتقدمين والتعويضات المقررة بديوان عام المحافظة وعلى موقعها الإلكترونى، وبمقار البعثات الدبلوماسية والقنصليات المصرية، لتتاح بعد ذلك لجنة قانونية لتلقى التظلمات على مدار عشرة أيام تبدأ من تاريخ إعلان المستحقين.
عقب انتهاء الإجراءات سالفة الذكر سيصدر قرار رئيس الوزراء بتفويض رئاسى لتنفيذ قواعد التصرف بالمجان فى العقارات المملوكة للدولة والنزول على أموالها المنقولة بالتصرف بالمجان للمستحقين فى الأراضى والوحدات السكنية المخصصة للتعويض العينى، وبصرف المبالغ المالية المقررة للتعويض النقدى.
 وعلى أرض الشفافية سيتم تسليم التعويضات ومستنداتها فى احتفالية مهيبة نهاية العام الجارى.
■ ■ ■
 لم تكن دولة ٣٠ يونيو لتضع شروطًا تعجيزية أمام المتضررين، لم تكن لتداعب خيالهم بما لا تملك أو لا تستطيع، منذ البداية كان الهدف هو منح الحقوق محمولة على قواعد الكرامة.
لقد راحت اللجنة المشكلة تتخذ إجراءات التيسير على المستحقين فخصصت مقرات متعددة لتلقى الطلبات وفقا لتفصيلها التالى:
- تعويضات المساكن ومقراتها «بلانة - توشكى - عنيبة - نصر - المالكى - قورته - كلابشة - الدكة - أبوهور - دهميت».
- تعويضات الأراضى الزراعية ومقراتها «بلانة - أدندان - قسطل - توماس وعافية - أبوسمبل - توشكى شرق - توشكى غرب - عنيبة - ارمنا - ابريم - الجنينة والشباك - نصر - الدكة - قورتة - دابود - كلابشة».
- تعويضات التقنين ومقراتها «الوحدة المحلية لمركز ومدينة أسوان - حى جنوب - حى شرق - حى غرب - أملاك الدولة الخاصة بالمحمودية».
لم تكن مقرات إدارية بقدر ما كانت نقاط ارتكاز لإعادة انتشار خريطة العطاء المصرى.
■ ■ ■
 دولة ٣٠ يونيو هى بحق دولة المواجهة تحمل على عاتقها إرثًا قديمًا فلا تدير ظهرها لأصحاب الحقوق بعدما قررت وضع نهاية للمظلمة التاريخية.
ليست إجراءات إدارية بقدر ما هى قرار الجمهورية الثانية بأن تحنو على أبنائها.
برغم أنى لست من أهل النوبة إلا أننى لم أملك نفسى عند استقبالى لتفاصيل عمل اللجنة التاريخية، وكأنى أسمع «حدوتة مصرية» بصوت محمد منير القادم من النوبة، تداعى خيالى مشاهد الأهالى وهم يتمايلون على أنغام «ربك لما يريد أحلامنا هتتحقق وكلامنا هيتصدق».