صاحب القلم الرصاص.. أسامة عفيفى
فى «مجمرة «الحياة داخل الواقع المصرى على مدى سنوات .. توهَّجت جذوة هذا الصحافى الشهير بـ «صاحب القلم الرصاص : أسامة عفيفى»؛ والسيف الذى لم يعرف الطريق إلى «غمده» فى أحلك ساعات الظلام على المسرح السياسى؛ بمحاولة «إطفاء المصابيح الثقافية» فى شوارع الساحة الثقافية المصرية؛ التى شهدت أبشع هجمات «التدجين» على أصحاب الأقلام التى ناهضت «التطبيع» مع الصهاينة؛ وسقط منهم من سقط تحت إغراء المال والشهرة و.... ؛ وكان جريئًا فى تناوله الشعرى ومواجهًا بجسارة لكل من يدَّعون «الثورية» ويرتدون أقنعتها .. فيقول فى معزوفته الرائعة «أقنعة» :
القُـرح ..
التى
تحت ثيابهم «الثورية»
تقـيَّحـت،
ورائحة العفن المراوغ
مهما تعطّـروا ..
بعرق الكادحين
من وراء الأقنعة .. تفُـوح !!
وظل صاحب العود النحيل صامدًا فى وجه كل الرياح العاتية؛ ينتقل كالعصفور المراوغ من غصنٍ إلى غصن على أفنان الصفحات الثقافية فى مصروالوطن العربي؛ شاهرًا قلمه نثرًا وشعرًا ونقدًا وتحليلاً؛ ليضىء الطريق لكل صاحب موهبة وقلم حر.. حتى لو لم يكن مشهورًا على الساحة؛ ولكن كان ديدنه الإبداع الصادق المؤثرفى تشكيل الوجدان المصرى الذى آمن به؛ منذ جاء إلى الحياة مع تباشير ثورة يوليو المجيدة؛ وتفتحت عيناه على مكاسبها للعمال والفلاحين والمهمشين، فانتصر لهم وعاش بينهم فى شوارع الجيزة وحواريها وأزقتها؛ مبهورًا بعبقرية المكان حتى آخرشهيق فى رئتيه المتعبتين؛ وآخر زفير انطلق من صدره على ضفاف النيل بأحد المستشفيات القابعة على ضفافه.. بالجيزة أيضًا؛ ولم يتاجر بمرض قلبه المهترئ منذ سنوات؛ والذى كان يحتاج إلى رحلة علاج طويلة وتركيب «دعامات» لايملك ثمنها؛ ومع هذا.. لم يستغل صفحاته فى تسول العلاج على نفقة الدولة، وقال : أبدًا .. لن أكون هذا الرجل، فكان كالجذوة التى توهَّجت.. وذبلت.. وخبت.. تاركة خلفها نتاجًا عبقريًا؛ نرجو ألا يضيع فى رماد الواقع؛ ليضىء السبيل لكل عاشقى الحرية!!
فقد قام بالإشراف على الصفحة الثقافية بمجلة «الموقف العربى».. والإشراف على الصفحة الثقافية فى جريدة «الأسبوع»؛ فأحدث الطفرات الواجبة فى الصحافة الثقافية؛ وقدم العديد من الشعراء والأدباء من مختلف محافظات مصر، فقد كان جُل همه الإنتاج الجيد والجاد الذى يخدم مصالح المصريين.
ولم تكن إرهاصات أحداث يناير قد هدأت ولم تتضح معالمها بعد، اكتشف المثقفون ـ بالحس الثورى أن هناك من يختبئ وراء الآكام ليقفز إلى صدارة المشهد؛ لتكميم الأفواه وكسرالأقلام الوطنية المؤمنة بالحرية والكرامة؛ فكان هذا الوطنى الغيورعلى رأس الاعتصام الشهيربـ«اعتصام وزارة الثقافة»؛ لمنع هذا الهابط بالمظلة «الإخوانية» على سطحها؛ والذى «استوزره» من ظنوا أنفسهم حكَّامًا جُددا فى غفلة من الزمن؛ وامتدادًا لحقبة تكميم الأفواه والأقلام .. واستطاع ومعه كوكبة الأدباء والشعراء والفنانين أن يدرأوا هذا الخطر المحدق بمصر.. وحينما انزاحت تلك السحيبات السوداء من سماء الوطن؛ وقع الاختيارعليه ليرأس تحريرمجلة «المجلة».. سجل الثقافة الرفيعة، تلك المطبوعة التى تولى رئاسة تحريرها عمالقة من رواد الأدب والفن والصحافة الثقافية ـ وهو مايعكس قيمته وقامته وموهبته الصحفية والأدبية والفكرية ـ ومنهم الأدباء: على الراعى- يحيى حقى - عبد القادر القط.
قدم الشاعرأسامة عفيفى تجربة شعرية؛ كان يطلق عليها اسم: «من دفتر الشذرات»؛ تحمل على أكتافها قضايا الوطن والإنسان، ولم ينفصل أو يتخلى عفيفى عنها طيلة حياتها فكانت قضايا المجتمع حاضرة فى شعره كما يتضح فى مقطع شعرى بعنوان «الميادين» يقول فيه:
وجد أريج الرياحين
وصهد غضب القلوب
صلابة نخل الجنوب
جسارة الفأس التى
تشق قلب الطين
مصر التي
فى الميادين!
علاوة على امتلاكه لموهبة «الحكَّاء الماهر» الذى يجمع بين الأصالة والمعاصرة؛ فتجده يحكى لك عن: لماذا سمِّيت «الجيزة» بهذا الاسم؛ ليخبرنا أن جنود الفاتح «عمرو بن العاص» حين وصلوا إلى الضفة الأخرى من النيل فى مواجهة «الفسطاط»؛ طلبوا عبور مجرى النيل إلى الجهة الأخرى فاجتازوه، ومن هنا سميت تلك المنطقة المقابلة للفسطاط بـ«الجيزة»؛ وكان يفتخر دومًا بأنه «الجيزاوى» أبًا عن جد؛ وإنه «ابن الحلوانى» وهى صناعة أجداده؛ ويرجع إليها مقولة: «اللى بنى مصر.. كان فى الأصل حلوانى»؛ وله مقالات عديدة تحمل عنوان «مقالات ابن الحلوانى» يقص علينا فيها تاريخ ما أهمله التاريخ .
وليس من قبيل المصادفة ـ لأنه كان يشعر بدنو أجله ـ أن يكون آخر ما كتبه على صفحة التواصل الاجتماعى؛ مقطوعة من وجدانه.. بعنوان «حنين».. يقول فيها: لأننا خلقنا.. من نفس قطعة الطين .. وافترقت بنا الدروب.. عبر آلاف السنين .. قالت كفك.. حين التقينا.. لم تحملنا.. كل هذا الحنين؟!».
لذا.. كان سرادق العزاء فى وداعه مهيبًا؛ بحضور تلك الكوكبة من الأدباء والشعراء والكتاب والفنانين التشكيليين؛ ورؤساء تحريرالصحف؛ ووزراء الثقافة السابقين؛ يعكس بوضوح: من هو أسامة عفيفى .
السلام لروحه.. عاش نبيلاً ورحل فى هدوء كشخصيته الهادئة الودودة.