الجمعة 26 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
القضاء.. والقوى الناعمة

القضاء.. والقوى الناعمة






القوى الناعمة  Soft power هو مفهوم صاغه  أحد علماء جامعة هارفارد  اسمه جوزيف ناي  لوصف القدرة على الجذب والضم دون الاكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع، ثم شاع استخدام هذا المصطلح ليشمل التأثير والإقناع والثقافة والنموذج، وتأكدت تلك المعانى من خلال التأثير الثقافى المجتمعى على وعى الشعوب، وهى بعكس القوى الخشنة أو الصلبة والتى تعتمد على الاكراه والإجبار.
والقضاء هو أحد أضلع مثلث السلطة للدول الديمقراطية التى تتكون فيها الدولة من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتملك تلك السلطات - وفق نظمها التقليدية - قوى خشنة وصلبة لمباشرة أعمالها، فالسلطة التشريعية تسن القوانين وتراقب أعمال السلطة التنفيذية، والسلطة التنفيذية تقوم بتنفيذ التشريعات ولديها صلاحيات قانونية لانفاذ القوانين، والسلطة القضائية تصدر الأحكام بتطبيق القوانين التى تسنها السلطة التشريعية وتأمر بوضع الصيغة التنفيذية لتنفيذها بالقوة الجبرية، ومالم تتحقق تلك الصلاحيات الصلبة فى مباشرة أعمال تلك السلطات لشاعت الفوضى وعم الفساد ولا شك.
ولكن السؤال الذى يطرح نفسه وفق المفهوم الثقافى لمصطلح « القوى الناعمة « هو : هل من الممكن حقا أن ينهض القضاء بدور ما فى التأثير المجتمعى كإحدى آليات القوى الناعمة؟
الإجابة فى اعتقادى (نعم).. فما من شك أن القضاء يتبوأ منزلةً كبيرةً ومكانًة عاليًة فى الدولة نظرًا لما يقوم به من رسالة من شأنها تثبيت دعائم دولة القانون، وأنه لا أحد فوق القانون، وهذا من شأنه بثّ الأمن ومحاربة الفوضى فى المجتمع. إلا أن القضاء لا يمكنه أن يحقق المكانة الجديرة به إن لم يحظَ بثقة المواطنين عامة والمتقاضين خاصة، إن ثقة هؤلاء وأولئك لن تتحقق إلا من خلال رؤية الشعوب العدالة وهى تتحقق، وهو ما تنطق به أحكام القضاة وقراراتهم وأوامرهم، صادعة للحق الدامغ، صادحة بالعدل المبين.
فالقاضى يجلس على منصة القضاء - فى محراب العدالة - زاهدًا ناسكًا متبتلاً.. يرد إلى المظلومين حقوقهم، ويضمّد جراحهم.. يعكف خلالها على دراسة آلاف القضايا وما تحويه من ملايين الأوراق. يحكم بما أفاض الله به عليه من العلوم القانونية والخبرات القضائية، لملفات القضايا بُغية الوصول إلى القول الفصل.. فيُصدِر حكمًا هو عنوان الحقيقة.. يسعى لتنفيذه صاحب الحق، ويطعن فيه المتضرر منه، وِفق منظومة متكاملة من الإجراءات والمساجلات تقدَّم فيها المستندات وتتبارى فيها المرافعات وتتناطح من خلالها الهامات.. كلُّ طرف يعتقد أنه صاحب الحق دون سِواه فيجتهد ما وسعه الجهد لتأييد وتعضيد وتوثيق رؤاه.. ومنهم - وهم كُثُر - من يتعمد إطالة أمد نظر الدعوى مستمسكًا برخصة قانونية أو سِعة صدر قضائية طالبًا آجالاً طوالاً تارة للاطلاع على أوراق الدعوى (وهو الذى أقامها)، وتارة أخرى للاستعداد للدفاع (وقد أعلن بموعد الجلسة منذ فترة كافية)، وتارة ثالثة لضمّ مفردات قضية أخرى منظورة (ليس لها أساس!)، ورابعة لسابقة الفصل فيها (ويثبت من بعد اختلاف الأطراف والموضوع والسبب)، وخامسة لاتخاذ إجراءات الطعن بالتزوير على إحدى مستنداتها (ويثبِت بعد سنوات فى أروقة الطب الشرعى صحتها!)، وسادسة وسابعة و.. و.. و.. وليس فى وِسع القاضى العادل إلا الاستجابة لهذه الطلبات (القانونية)، فالأصل فى الأشياء حُسن النية.. وكل هذا يتكبده القاضى بنفْسٍ راضيةٍ وروحٍ مرْضية.. تسعى لتطبيق موجبات القانون عساه يصل إلى حق طالما كان يؤرِّق طالبه، أو يردّ عن مظلوم فِرية خشى كثيرًا أن تلاحقه.
وطيلة حياته القضائية، فإن القاضى يجوب البلاد بطولها وعرضها.. يؤْثر على نفسه مصالح العباد.. يُفنى ذاته من أجلهم.. يفتقد الاستقرار والراحة، فهو دومًا مهمومٌ بهِم.. يتأهب فى أية لحظة لتضميد أناتهم وتخفيف صرخاتهم التى تؤرّق مضجعه آناء الليل وأطراف النهار.. فهو (طبيب النفس كما أنه مربى الخُلُق).. يتحمل عِتاب الأهل والأصدقاء عن تقصيره معهم.. يرد حاجة الأبناء فى وقت يقضيه بجوارهم.. عبؤه ثقيل، وهمّه كبير.. مسعاه العدل، ورائده الحق، وغايته نصفة المظلوم.. يبتغى رضوان الله، ولا ينتظر من أحد جزاءً ولا شكورًا..
هذا هو حال القضاة فى مصر (وأشرُف أن أكون واحدًا منهم).. أعانهم الله.. لتحقيق العدل وترسيخ دعائم الحق فى مصرنا الغالية.
وبالقانون والقضاء تحيا مصر