الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«إليا ريبين» أيقونة الفن الروسى

«إليا ريبين» أيقونة الفن الروسى






(إذن ماذا تعنى الواقعية، الحقيقة أن الأساتذة الفرنسيين أخرجوا الفن من القصور وردهات الأكاديميات إلى الشارع فصوروا لنا الحقيقة.. الواقع الألم، العمال والحمالين والنساء الفقيرات يبحثن عن منفذ للرزق.. هذه هى الحقيقة لن يكن الفن دوما أسطورة تسبح فى حلم أو صفحة من الكتاب المقدس أو وجها نسائيا جالسا فى هدوء.. لا تماما هناك تلكم الوجوه المكفهرة والمتعبة والتى تجأر أحيانا بالشكوى أو هى متسلمة لحكمة الرب.. هذا هو العالم الواقعى الذى أضافه الأساتذة الفرنسيون الأول ومن ثم سيرنا نحن على نهجهم معشر الواقعين).. هذه هى الكلمات التى وصف بها الناقد الروسى الكبير فلاديمير ستاسوف صديق أيقونة الفن الروسى والبلطيقى معا ومعجزة الواقعية الروسية الفنان إليا ريبين والذى يعرف على أبسط تقدير بمصباح الواقعية الروسى وحينما نقول هنا الواقعية فنحن نقصد بها الواقعية بكل معانيها فمنها ما هو يتحدث عن الحياة اليومية فى صورة درامية وربما مأساوية ومنها ما يصور لحظة تاريخية بمسحة أدائية تصل لدرجة مسرحة اللقطة المنتقاة كما أنه يرصد أوجاع وآلام رجل الشارع العادى العامل والمزارع، ومع كل هذا الزخم وفى خضم الواقعية لا ينسى إليا ريبين تقاليد الرسم الكلاسيكى فيخوض عالم البورتريه كما انه يذهب لأبعد من ذلك فيعطينا مشاهد مصورة من أدب عصره وخصوصا أدب صديقه الروائى الأشهر ليو تلوستوى.
وقبل أن نخوض فى بحار إليا ريبين التشكيلية يجب أن نعطى بعض الإضاءات حول الظروف التى أثرت فى فنه وهذه التحولات الخلاقة التى جعلت منه أيقونة الواقعية الروسية والفنلندية على حد سواء، ولعل من حق أقاليم كثيرة أن تفخر بأنها أنجبت إليا ريبين أولها الإمبراطورية الروسية حيث ولد وانتسب على الرغم من أن محل ميلاده مدينة شاجويف كانت أداريا تابعة لفنلندا وحيث كانت روسيا تحكم عروس البلطيق فنلندا منذ عدة قرون فكانت شاجويف روسية كما أصبحت فيما بعد تابعة لأوكرانيا الروسية التى ما لبثت أن استقلت عن الاتحاد السوفيتى منذ ثلاثة عقود ونيف، لكن ماذا قدمت هذه المتاهة الجغرافية والتنوع فى مسيرة إليا ريبين الفنية الحافلة ؟ بالطبع لقد قدمت الكثير أول ما قدمه هذا التنوع فى مصادر إليا سواء مصادر الأخيلة أو مصادر التقنيات أو مصادر التعلم نفسها التى خلقت شخصيته وهكذا فأن بدايات ريبين كانت روسية بحتة فى محرف ايفان بوناكوف والذى كان فى الأصل فنانا من فنانى الأيقونة الروسية ولعل الذين عرفوا جيدا أسلوب رسم الأيقونة الروسية – الأيكينوجرافيك – والتى هى فى الأصل قبطية مستقاة من الأيقونة المصرية سوف يشعر بالصدمة لأنه كيف نستطيع أن نتخيل أن فنان أيقونة يتحول لهذا الفنان الواقعى فى أعلى درجات التكنيك التنفيذى فى المدرسة الواقعية ؟ بحيث لم نر ذلك إلى مع أليجريكو فنان الباروك الشهير الذى نزح من اليونان إلى أسبانيا وتحول من فنان أيقونة لفنان باروكى بامتياز كما يعلم الجميع، والحقيقة أنه من يظن أن الأيقونة لم تأثر فى إليا ريبين خاطئ لأنه ألوان بعض لوحاته تدل على تأثر تام بالتكنيك اللونى للأيقونة وأشهرها لوحة إيفان وولده المصاب والتى تنطق فيها التقنية اللونية للأيقونة الروسية، أيضا علينا أن نعرف أن أستاذه الأول ايفان باناكوف لم يكن فقط رساما للأيقونة بل كان أيضا يقوم برسم بورتريهات لوجهاء المجتمع ومن ثم كانت هناك فرصة أن يتعلم ريبين تقنيات أخرى، النقطة الثانية هى تنوع المصادر من الناحية المكانية فالحرية ألتى أعطاها التنوع الجغرافى لريبين نوعت المشهد التشكيلى لديه فهذه لوحة – عمال يجرون المركب على ضفاف الفولجا – والتى بين تسجل فى موضوعا بوضوح عذابات العمال الذين يعملون فى خدمة المراكب على ضفاف نهر الفولجا ومدى البؤس الذى يبدو على وجوههم والتى تعتبر أحد أهم وأشهر أعمالة وتبين مدى تأثره بالحياة الاجتماعية الروسية فى هذا الوقت وهى فترة صراعات واحتقان بين الطبقات الدينا من العمال والفلاحين وأدت فى النهاية للثورة البلشفية وانتهاء العصر القيصرى وبغض النظر عن صدق التصوير فى اللوحة فإن هناك علامات كثيرة فيها تدل على تأثر واضح بمدرسة الاستشراق خاصة مدرسة الأستشراق الفرنسى التى كانت قد وصلت لذروتها فى هذا الوقت ويبدو ذلك فى اختيار اللون الأصفر الذى يشكل خلفية اللوحة والذى يذكرنا بلوحات كثره من مدرسة الأستشراق – وهو اللون الغالب لخلفيات معظم لوحات الأسشتراق – كذلك حشد الشخوص داخل اللوحة ككتلة تمشى فى اصطفاف وبغض النظر على أن موضوع اللوحة أستدعى ذلك إلا أنه استلهام واضح من لوحات أستشراقية بعينها مثل لوحة المهاجرين والحجيج.
وكما يبدو لنا هنا أن كلام النقاد هنا يبين مدى الافتتان بأعمال ريبين بين معاصريه ومدى الحظوة التى وصل إليها ليس فى روسيا فقط لكن فى أوربا كلها وسوف نوضح ذلك فيما بعد، لكن إذا حللنا كلام ميشلوف هنا وجدنا أنها تركز على أن الإبداع الحركى فى أعمال ريبين التاريخية وهذا الإبداع يعنى فهم ريبين للموقف التاريخى جيدا واقتناص اللحظة الفارقة لتعطى قيما لعملة التشكيلى ثم قدرته على وضع هذه اللحظة فى أطار درامى فى أقصى درجاته ولم يتأتى له ذلك بالطبع بدون التمكن من أدواته وتقنياته خصوصا إتقان تنفيذ النموذج التشريحى لذى يبرز الحركة على أكمل وجه ويعطيها حدودها الأدائية وأكبر مثالين على هذه النقطة لوحة - القوقاز يردون على السلطان محمد الرابع -  والتى تبين واقعة تاريخية مشهورة وهى رد القوقاز السافر على إحدى رسائل السلطان محمد الرابع سلطان العثمانيين والحقيقة أن اللوحة تحتاج إلى مبحث كامل لوصف جماليتها وتحليلها تحليلا يليق بعبقريتها لكننا يكفى أن نقول إن اللوحة تعتبر أحد أهم لوحات الفن الروسى والأوروبى على حد سواء و تظهر فيها بالإضافة لمهارة ريبين فى إضفاء درامية فائقة على اللحظة التاريخية تظهر مهارته فى تصوير الوجه خارج أطار الفن الكلاسيكى والواقعى الذى عهدناه بل تذكرنا الشخصيات ذات الوجوه الغريبة فى اللوحة بـ»الكروتيسك» (صور تشريحية كاركاتيرية) الخاص بأسطورة الفن التشكيلى فى عصر النهضة ليورناردو دافنشى بحيث صور ريبين العديد من شخصيات القبائل البربرية القوقازية فى صورة كاريكاتيرية واضحة لكن على أسلوب دافنشي، وكان بعض الباحثين فى متحف سان بيترسبريغ فى خمسينيات القرن العشرين قد قاموا بأبحاث على اللوحة وخلصوا أن ربين أستخدم نفس النماذج التشريحية للكروتيسك الخاص بدافنشى.