الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
أوريل بايشو الفنان الانطباعى المجهول

أوريل بايشو الفنان الانطباعى المجهول






لا تتوقف النبالة فى الفن إلا حينما يتوقف الشعور بحب الإنسانية ولا تتوقف اليد التى ترسم عن زرع الرمز إلا حينما تتوقف القلوب عن تذوق الرموز.. الفن هو ذلك الشعور العميق بحاجتنا لتجسيد المشاعر والرمز فى إطار من التوازن.
الحقيقة لقد أعيتنا النظريات والأقاويل كلما حاولنا الولوج لعوالم العديد من الفنانين وخاصة أولئك الفنانين الذين خرجوا عن إطار الشهرة العالمية على الرغم من شهرتهم الشعبية والزمنية وقبل أن نخص بالحديث فنانًا بعينه علينا أن نقر فى البداية أن فنانى ذلك الجناح الشرقى من أوروبا ربما تم تجاهلهم أحيانًا عن غير قصد وأحيانًا أخرى عن قصد فالناظر بعمق لمعاجم تاريخ الفن يجد بسهولة ذلك التكثيف لكل ما هو غربى فى الفن الأوروبى وتهميش لكل ما هو شرقى فى الفن الأوروبى لدرجة أنه من الصعب أحيانًا أن تجد فنانًا واحدًا من أوروبا الشرقية فى معظم المصنفات التى تتناول الفن التشكيلى الغربى كوحدة تاريخية.
ولعل فناننا اليوم أوريل بايشو من الذين طالتهم يد النسيان على الرغم من شهرته الواسعة فى عصره وعلى الرغم من أنه كان ولا يزال من طليعة الانطباعيين الحداثيين فى أوروبا إلا أنه ربما لموته صغيرًا لم يلتفت إليه الكثيرون من كتاب السير والنقاد الذين وضعوا اهتمامهم بالفن التشكيلى.
فى العديد من حقب الفن التشكيلى علينا أن نعترف أن هناك العديد من الحركات والتحولات كان لها أثر قوي وربما محوري فى تاريخ الفن التشكيلى فبعض النقاد حينما يقوم بوضع فكرة مقترحة لحصر المدارس والحركات يقع فى خطأ شائع يقع فيه معظم النقاد وهو اعتبار كل مدرسة وحدة قائمة بذاتها لها حدود بدائية ونهائية ولها شكل محدد وخطوط رئيسية وهذا قد يكون مقبولًا نظريًا لكنه على أرض الواقع يكون بعيدًا تمامًا عن الحقيقة بل ربما يصبح مضحكًا وخياليًا حينما تتعايش مع الطرح الملموس لفعل الفن ذاته ولنضرب مثلًا حيًا ومعاصرًا ، كلنا يعرف حركة الفوران الباريسية المعروفة فى الفن التشكيلى والذى يجعل لباريس السبق دائمًا كعاصمة للفن التشكيلى فى العالم بلا منازع ، فى الحقيقة هذا يكون نظريًا مقبولًا ومقنعًا نتيجة للسمع المتواتر والشكل الاختزالى لباريس على مر العصور، لكن فى الواقع حركة الفن التشكيلى فى باريس معطوبة من زمن بعيد وفى محاولتها للحفاظ على فكرة الفورات والميلاد نجد معظم الفنانين الذين يعملون بشكل فعلى فى باريس يحاولون استنساخ وتوأمة الماضى من خلال تطوير مفتعل أيضًا يتم استيراد الفكرة التشكيلية الأمريكية بشكل كبير دون النظر لطبيعة البيئة الأمريكية والبيئة الأوروبية بنفس حجم التعايش مع وجبات التيك أواى وسينما هوليوود الصارخة والمبالغ فيها تقنيًا وأدائيًا.
فناننا اليوم هو الفنان الكبير  أوريل بايشو والذى يعرف بصاحب الريشة الحنونة نظرًا لما وصل إليه من تهذيب الكثير من معايير الانطباعية الباريسية والحقيقة أن ما يربط بين مقدمتنا وبين بايشو هو أنه لم يعترف بحدية المدارس ولا قواعدها المفرطة فى التشدد كما يهيئها لنا بعض النقاد غير المعاينين للفن التشكيلى على مستوى الواقع والعقدة هنا هو أن أوريل بايشو من الانطباعيين ذوى النظرة الاستشرافية نحو الانطباعية الجديدة بل لعلنا نعتبره من مبشرى الانطباعية الجديدة نلمس فى أوريل بايشو روح الانطباعيين الأول أمثال فان جوخ وروح ما بعد الانطباعية أو الانطباعية الجديدة، والحقيقة أن لنا وقفة هنا من صميم النقد وربما للتوضيح المهم للقارئ العادى والمتخصص وهو أن هناك كلا من المصطلحين هى مدرسة قائمة بذاتها أى أن ما بعد الانطباعية هى مدرسة مستقلة بذاتها تقع بين مدرستين الانطباعية الكلاسيكية.
والانطباعية الحديثة وهذا ما أدركه الكثيرون من انطباعيو باريس فى أوائل القرن العشرين حيث تقع مرحلة ما بعد الانطباعية والتى ربما تنتهى فعليا قبيل الحرب العالمية الثانية بقليل حيث ظهرت الانطباعية الحديثة بأبهى صورها بل ولعلنا نستطيع أن نقول بما لا يعطى مجالا للشك أن الانطباعية خافت على نفسها من الاندثار بعد أن أخرجت مرحلة ما بعد الانطباعية كل ما لديها فقامت بتدجين الانطباعية بعدة سمات من مدارس أخرى أهمها الواقعية وفن الأليستريشن كفن قائم بذاته إضافة إلى بعض التقنيات التى ميزت فيما بعد الرسم الصحفى من عظماء مثل دوميه وتلاميذه الممتدين بكثافة حتى منتصف القرن العشرين ومن ثم ظهرت لنا بهذا الشكل الذى عرفنا فيه الانطباعية الجديدة ، وليس من نافلة القول أن نذكر أن الانطباعية الجديدة أصبحت أكثر تغلغلًا فى ذهن المتلقى العادى لأنها لامست عوالمه وأصبحت تبتعد عن الأعجام الذى نحت إليه معظم المدارس الجديدة التى نشأت فى النصف الأول من القرن العشرين ولذا نجد أن الصحافة كانت تعرض بشكل كبير لأعمال الانطباعية الجديدة على صفحاتها بل واستخدمت فنانيها للرسم الصحفى ومن بينهم الكثيرون لكن فى الحقيقة أن بايشو يعتبر من فنانى رومانيا الذين نستطيع أن نطلق عليهم انطباعى متحرر أو حتى انطباعى حداثى.
يعرف أوريل بايشو بأنه أحد رواد مرحلة ما بعد الانطباعية والانطباعية الحديثة فى أعماله معظم التشكيلية لكنه فى باقى أعماله فى يعتبر من إرهاصات مدرسة الانطباعية الجديدة.
يعتبر أوريل بايشو الفنان الرومانى الذى كان على رغم موته فى سن صغيرة إلا أنه ترك أثرا كبيرا فى الفن التشكيلى فى أوربا الشرقية حيث جعل انطباعية البورتريه أكثر وضوحا بل وجعل من المشاهد الخارجية التى رسمها فى إطار خاص جدًا يجعله من مبشرى الانطباعية الحديثة كما قلنا لكننا أيضًا نستطيع أن نقول أنه بالنسبة للبورتريه كان ككل فنانى أوربا الشرقية سواء من ناحية اختيار الأوان أو من ناحية الخلفية الرومانسية لفكرة البورتريه بحيث كان كلاسيكيًا فى اختياره للوجوه ووضعات أبطال بورتريهاته لكنه لعب بحركات الفرشاة والألوان المبهجة والساخنة ليجعل منه حوارية للعين قد تأخذنا فيما وراء محدودية المدارس سواء الانطباعية أو غيرها ولهذا فن ميخايل براكيسكو المؤرخ الرومانى يقول عنه أنه فنان بلا حدود وتكمن داخلة المدرسية الإيطالية بشكل حقيقى على الرغم من أنه لم يمارسها بالشكل الواضح والصريح يومًا ما وربما لو كان الأجل طال به بعض الوقت لكان عاد لتقنية أكثر كلاسيكية بل وربما تحول لفنان ضمن الفكتوريين الذين كانت آثرهم لازالت موجودة أيام بايشو.
ولد أوريل بايشو فى مايو 1896 فى مقاطعة لاسى فى رومانيا وكان والدة موظفًا صغيرًا توفى وترك أوريل طفلًا صغيرًا تعهدته جدته وحققت له رغبته فى تعلن الفن فأرسلته لمدرسة ألكسندر دانيسى الشهيرة فى مقاطعته وتعلم فيها مبادئ الرسم ثم التحق بعد ذلك بمدرسة لاسى للفنون الجميلة وحصل على جائزة من الأكاديمية الرومانية عام 1915 عن بوتريه رسمه لفنان فرنسى وبعد أن مارس الفن لفترة اندلعت الحرب العالمية الأولى والتى تركت آثارها عليه بشكل كبير فأصيب أثناء الحرب بالالتهاب الرئوى والذى ظل يعانى منه حتى موته.
بعد الحرب العالمية الأولى باشر أوريل بايشو ترحاله كمثل كل فنانى عصره فرحل إلى سلوفنيا وباريس وروما وفى روما قضى بعض الوقت فى أكاديمية روما وتشرب هناك الأسلوب الإيطالى على طريقة أهل لاتزيو ومن ثم عاد إلى رومانيا وافتتح مرسم باشر فيه عمله كفنان متخصص ووقع فى حب ليا ساوفينو ابنة أحد أشهر كتاب عصره لكنه لم يستطيع الزواج منها لفقرة وفى عام 1928 أشتد عليه مرض السل فمات على بتأثيره وأقامت رومانيا متحفا لأعماله فى ثمانينيات القرن الماضى.