الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«جون بيرو» والعبقرية الفرنسية

«جون بيرو» والعبقرية الفرنسية






إن لم تكن باريسيا فإن بعضا منك يسكن باريس أو بعضا منك بالفعل ينتمى لباريس، هكذا كان يتحدث دائما السيد «رونو» أحد أساتذة مدرسة الفنون الجميلة بباريس مخاطبا طلابه من الأجانب، هذه حقيقة نجدها مرارا وتكرارا فى أعمال الفنانين الذين عاشوا أو درسوا فى باريس سواء كانوا باريسيين حقيقيين أو من بلاد أخرى لكنهم ينتمون لباريس بشكل أو بآخر وكان هذا الفنان يقطن فى باريس أو تركها، وهنا علينا ان نجزم أن الباريسية هى أحد أهم صفات الفن التشكيلى عند الكثير من النابغين من فنانى القرن التاسع عشر والقرن العشرين خصوصا فى الفن التشكيلى ولن يكون من قبيل المبالغة أن نفرق أحيانا بين أساليب الفنانين الباريسيين بعضهم البعض بمسميات مدرسية غير مألوفة كأن نقول مدرسة مونتمارتر وهى شديدة الالتصاق بالحياة اليومية وعالم الأرتستيك والشعراء المغمورين والحياة البوهيمية وهناك مدرسة الحى اللاتينى الذى نجدها لا تختلف فى معاناتها اليومية مع مدرسة مونتمارتر لكنها تميل أكثر للبعد الأكاديمى وربما نقسمها من داخلها لمدرسة سان جيرمان أيضا التى تحمل بعد الصراع التجارى فى الفن التشكيلى وهكذا وربما وجدنا أحياء أخرى ننسب إليها مدارس فنية أكثر ترفا تلتصق بالمشهد اليومى الباريسى وهذه المدرسة بالتحديد التى تركز فى مشهدها التشكيلى وموضوعاتها على ما يمكن أن نسميه Urban life of Paris  أو مظاهر الحضارة فى باريس وخصوصا فى مشاهد الحياة اليومية التى تعج بالمقاهى ودور الفن سواء مسرح أو أوبرا أو غيرها من مظاهر الحياة الباريسية ويركز فيها الفنان على تصوير الطبقة الوسطى الميسورة الحال والتى ينتمى إليها معظم الفنانين المعروفين، ومن هذه الكوكبة يأتى فنانا الكبير الذى نقدمه للقارئ اليوم هو جون بيرو والذى يمكن أن نطلق علية الباريسى المثالى ونقصد هنا بكلمة مثالى أنه كانت تنطبق علية كل سمات الباريسيين فى أعمالهم التى خرجت للشارع ووثقت دون تمييز للحياة الباريسية فى فترات عديدة كانت أخصبها تلك الفترة التى عاشها جون بيرو ويمكن أن نطلق عليها فترة التألق فى عمر مدينة مثل باريس وهذه الفترة المتألقة يسميها المؤرخون الأوربيون – بيللى بوك – وهى دون مبالغة أخصب فترات باريس كعاصمة للفن والموضة والجمال فكانت هذه الفترة تعتبر باريس الدرة الوضاحة التى تتزين بها أوروبا بل والعالم أجمع وهذه الفترة يحددها المؤرخون بالفترة ما بين انتهاء الحرب الفرنسية البروسية وبين اندلاع الحرب العالمية الأولى أى من 1871 وحتى 1914 وهنا كان يكمن الحلم الباريسى والجمال الغامض الذى يحوط هذه الفترة بشكل خاص لأنه ودون مبالغة كانت باريس فى هذه الفترة مهد الحضارة الأوربية الحديثة والمعاصرة ونقطة التحول التى كان المودرنيزم فيها هو الزائر الوليد لعالم الفن عامة والفن التشكيلى خاصة.
لم يكن جون بيرو مثله مثل معاصروه الذين ساروا بقوة فى الانطباعية لكنه وعلى الرغم من أن البعض يحسبه بشكل أو بآخر كفنان أنطباعى من زاوية ما إلا أنه لم يكن كذلك بالمرة ونحن لا نستطيع أن نصنفه رغما عنه فى مدرسة ما لكنه من الواقعيين الذين أحبوا تصوير المشهد الباريسى الذى وصل لأوج مجده وعظمته فى فترة ازدهار فن جون بيرو ونجد أن عيون بيرو وأقرانه تفتحت على الأماكن التى كانت تغص بالكثير من أهل باريس كالمقاهى والمسارح ودور الفن والميادين الشهيرة فنجدها تظهر صراحة فى أعمال بيرو متمثلة فى كافى دو بارى وقهوة الأدباء وصالة جافارد وحتى دور العبادة مثل ميدالين وسانت ترينتى وأماكن تجمعات الطبقة المتوسطة الميسورة بشكل أو بآخر ومن ثم كان بيرو يبتعد عن المثالية واستبطان ذاته فى التصوير بل كان واقعيا مدربا لأبعد الحدود وحتى لا نخلط بين أعمال جان بيرو وبين أعمال المدرسة الواقعية علينا ان نقول أن المقصود بواقعية بيرو هى واقعية خاصة تتمثل فى أمانة نقل المشهد مع الوصول به لمرحلة قياسية تجعلنا نشعر أن هناك قصة ما وراء المشهد المصور ويتضح ذلك بقوة فى لوحته الشهيرة - فى طريق العودة من الجنازة – والتى كانت العمل الذى قربة للجماهير وعرف المتذوقين به وعلى رغم من البعض قد يرى اللوحة بسيطة من حيث الفكرة إلا أنها عميقة جدا فى مضامينها وتقنياتها كلما تأملناها بشكل نقدى وعدم فصلها أن الإطار التاريخى الاجتماعى لفتراتها.
وعلى الرغم من أن لوحة العودة من الجنازة بها الكثير من تقنيات الانطباعية لذا فأنها أحد الأعمال التى يتكئ عليها بعض النقاد لأن يضموا بيرو لزمرة الانطباعيين لكن فى الحقيقة على الرغم من وجود هذه التقنيات تظل اللوحة أحد اهم أعمال الباريسيين الواقعية أو بمعنى أدق لحوارى باريس أولا لأنها تصور مشهدا من مشاهد الحياة اليومية وثانيا لأنها بها نسبة ولو بسيطة من السرد أو الحكى فى أسلوب العرض سواء لشخصيات اللوحة من حيث أماكنهم فى اللوحة أو من حيث وضعاتهم التعبيرية أو من خلال المضمون الرمزى وراء المشهد التصويرى والذى يحاول أن يخبرنا به بيرو أن الحياة تعود كما هى بعد دفن أحد الأشخاص ولا تتوقف فهؤلاء العائدون من الجنازة يمارسون حياتهم بشكل طبيعى وان كانوا لا يزالون يسيرون فى شكل حزين كجماعة لكن البعض منهم قد بدا بالفعل بالانفصال عن المجموعة ليذهب لشأنه أو يشعل سيجارة وهكذا مع التركيز على أزياء الحداد الباريسية وأجواء الشتاء.
تتفجر الحياة الباريسية ببهجتها فى أعمال جون بيرو بشكل خلاق ورائع مما يجعله أعمالة ثالث أهم موزع فى الكارت البريدى الباريسى وعالم التذكارات الباريسية بعد فوتوغرافيا روبير دوانو ورسومات ستانلين الإعلانية ثم بوسترات ألفونسو موكا، وهذا لا يجعلنا نعتبر بيرو يمثل قيما تجارية او يضعف من عملة الفنى كما أعتقد بعض النقاد بل لعلنا نرى أن هذا الإطار كان أحد أسباب تميزه كما كانت بيجال والمولان روج وغيرها من الأماكن أحد أسباب شهرة لوتريك وكما قلنا من البداية أن جون بيرو هو أحد هؤلاء الباريسين العظماء الذين شكلت أعمالهم سجلا حقيقيا لحياة الأوربان فى باريس ومع ذلك تجاهل النقاد جون بيرو لفترات طويلة من وفاته وحتى ثمانينيات القرن العشرين بل وأعتبره بعض مؤرخى الفن أنه يجسد الفكرة التجارية فى الفن التشكيلى وهذا ظلما بينا لفنان كبير مثل جون بيرو.