المصالحة مع النفس.. فريدة الشوباشى نموذجًا!
ما أجمل التصالح مع النفس بقناعة داخلية من الأعماق؛ فتلك المصالحة هى الباب الملكى للولوج إلى عالم هدوء السريرة ونقاء الوجدان؛ وهى البساط الأخضر الذى يمتد - تحت أقدامنا -على جسد دروب الحياة طولاً واتساعً- وعمقًا؛ ليمنحنا الرضا الروحى والقلبى عن كل اختياراتنا فى أساليب معاملاتنا الحياتيَّة مع البشر فى المجتمع على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم السلوكية وتحقيق التواؤم مع قناعاتهم السياسيَّة ومعتقداتهم فى مناحى الحياة كافة، دون التخلى أو التنازل عن الإيمان بالمبادئ السامية والأساسات والأعمدة التى يقام عليها بنيان الشخصية برؤاها ورؤيتها الخاصة والمتفردة.
وقد ينظر بعض شركاء المجتمع إلى تلك الشخصية المُعتدَّة بآرائها واختياراتها بنظرة مغايرة إيجابَّا أوسلبَّا؛ وقد تصل بالبعض إلى حد الإشارة بإصبع الاتهام بجريمة التمرد والعقوق والخروج من عباءة الموروث والعُرف والتقاليد والتفكير خارج مايسمى بفلسفة القطيع وسياسته.
لكن.. لأن الإنسان - فى الأغلب الأعم - يتمتع بالكثيرمن انعكاس اسمه على معظم أو كل صفاته وتصرفاته وسلوكياته؛ كانت هذه الشخصية المتفردة - التى لفتت نظرى وأنظار الكثيرين معى - وبرزت بين قريناتها من بنات جيلها منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي؛ وهى الصحفية والإذاعية والكاتبة الروائية: الأستاذة/ فريدة الشوباشي؛ فكانت - بحق - «فريدة» اسما وصفة وسلوكًا.
فهيَّا بنا نعيش فى عالمها وأمواج بحرحياتها الذى أخذها إلى «المنفى الاختياري» فى العالم الأوروبى والانخراط مع حياة الفرنجة؛ وبرغم طول الغربة التى امتدت إلى مايزيد على ربع قرن من الزمان؛ إلا أنها من خلال عملها فى فرنسا بتليفزيون وإذاعة مونت كارلو؛ رفضت أن تتخلى عن مصريتها الأصيلة وعن الإيمان بعروبتها المتجذرة فى أعماقها وبخاصة القضية الفلسطينية؛ وبرغم كل المغريات المادية والمعنوية التى تم عرضها عليها؛ إلا أنها رفضت أن تدير ظهرها للمبادئ السامية الراقية التى اعتنقتها؛ وفضلت الانتصار لنداء القلب والحب والضمير.. والعدل والحرية!
ومن المواقف الفارقة فى مسيرة حياتها فى بداية التهيؤ لوداع مرحلة الطفولة والدخول من بوابة عالم الأنوثة؛ كان لأهلها فى صعيد مصر - حيث العادات والتقاليد الصارمة وسيادة أعراف وتقاليد وقوانين المجتمع الذكورى - رأيًا بضرورة الزواج ممَّن تم اختياره لها على غير إرادتها، وكانت هذه الرغبة من الأهل بمثابة نزع فتيل قنبلة روح التمرد الدفين فى مكامن الشخصية؛ لإيمانها الشديد بضرورة عدم فرض القيود والأغلال حول رقبتها؛ ولأن ذلك يُعد شكلاً من أشكال العبودية وسلب الإرادة، وهى التى تريد الانطلاق بكامل الحرية المنضبطة - لا الفوضوية - لاختيار الطريق والشريك الذى يشاركها رحلة الحياة حتى النهاية، فعندما شعرت أن الحلقة تضيق حول رقبتها ومصيرها؛ لم تتردد وحملت حقيبتها على كتفيها.. ورحلت إلى حيث الواحة الظليلة فى كنف الشريك (الأديب الراحل/ على الشوباشى) الذى آمنت به وآمن بها وبأفكارها؛ ليبدآ معًا رحلة استكمال تحقيق الأمانى والطموحات التى داعبت مخيلتها - أو مخيلتهما معًا - فى مقتبل العمر! وقد اقترن اسمها باسم عائلته باختيارها إمعانا فى إظهار ارتباطها الروحى به إلى حد الانصهار.
ومن المدهش أن يكون اطلاعها على سيرة أميرالمؤمنين شهيد المحراب الفاروق «عمر بن الخطاب» والملقب بـ«الإمام االعادل»؛ سببًا فى ترسيخ مفهوم «العدل» بداخلها كقيمة وفضيلة من الفضائل التى تبحث عنها النفس المتصالحة مع ذاتها؛ وكانت السبب الأساسى فى الكثير من التحولات الجذرية فى سيرة ومسيرة حياتها المليئة بالمواقف التى تتطلب الحكمة فى سرعة اتخاذ القرار الصحيح؛ تلك المواقف التى جعلت منها ناشطة ناجحة فى مجال حقوق الإنسان؛ دون النظر إلى جنسه أولونه أوعقيدته، فالإنسان - فى نظرها - هو الإنسان وهو نفحة من روح الله خالق كل شيء، لتصل بتلك المفاهيم والقناعات لأن تتولى منصب رئيس جمعية حقوق المواطن فى مصر، وساعدها على النجاح فى هذا االمجال إجادتها للغة الفرنسية فى المرحلة الابتدائية والدراسة الجامعية فى كلية الحقوق.
لقد استطاعت هذه السيدة بقوة الإرادة والعزيمة الصلبة؛ أن تفسح لها مكانًا بين صفوف القوة الناعمة المصرية المكونة من النخبة والصفوة من الأدباء والشعراء والفنانين والصحفيين الشرفاء المؤمنين بقضايا الوطن والإنسان؛ واستطاعت أن تقول كلمتها الواعية فى أحلك الظروف التى مرت بها الساحة السياسية المصرية إبان حكم الجماعة التى تلفحت بعباءة الدين؛ والتى قفزت على سدة الحكم فى عام الكآبة والأحزان ٢٠١٢؛ فكتبت مقالاً رائعًا بصحيفة «المصرى اليوم» بعنوان «الحكم بشرع الله».. تقول فيه: «تاهت منا المعايير والضوابط بصدد مايعتبره البعض «شرع الله»؛ وتتنقل بين المتحدثين باسم المولى عز وجل؛ وكأنهم مفوضون بذلك؛ ونرصد اختلاف التقييم بينهم لما يعتبره كل منهم «شرع الله»؛ وبما أننى لست فقيهة بل مواطنة بسيطة ترصد وتراقب مايحدث فى وطنها وله؛ ويلح على سؤال بديهي: هل تتنافى العدالة الاجتماعية؛ التى نادت بها ثورة يناير مع شرع الله؟ هل من ينادى بتحقيق هذه العدالة بين المصريين وتقليل الفجوة الهائلة بينهم فى الدخل والمعيشة والتعليم والسكن والرعاية الصحية؛ ينتمى إلى القوم الكافرين؟ هل تتنافى قيمة «الحرية» مع شرع الله؟ وهل المواطنة والمساواة فى الحقوق والواجبات على أساس الانتماء إلى هذه الأرض؛ بغض النظرعن العقيدة الدينية أو الاختلاف فى الفكر أو الجنس أو اللون يناهضان مبادئ الإسلام ويعتبر أنه من الكبائر؛ بينما اعتناق فكر السمع والطاعة؛ وعدم الاهتمام بأصل بلد الحاكم؛ كأن يكون ماليزيًا مثلا؛ لكى يحكم مصر بجلالة قدرها؛ والتركيز فقط على أنه مسلم؛ هل هذا هو «شرع الله» فى نظرهؤلاء؟».
إننى أرى أننا بحاجةٍ ماسة إلى مثل هذه «الفريدة» فى نسيجها وتكوينها وقناعاتها التى لم تتزعزع فى حب الوطن والانتماء له؛ لنخرج به من النفق المظلم الذى يصر أعداء الوطن أن نتوه بداخله ونعود القهقرى إلى عصر الجاهلية الأولى.