الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«هوبنر» أستاذ الرومانسية الألمانية

«هوبنر» أستاذ الرومانسية الألمانية






لم يعد هناك شك فى أن المصادفات هى التى تصنع الأشياء الكبيرة فكم من أثر ضخم ومهم اكتشف بالمصادفة وكم من فنان سقط من ذاكرة التاريخ ثم عاد للأضواء بمحض الصدفة، وهذا بالتحديد ما حدث مع أحد فنانى جيل الأساتذة الألمان فى الفن التشكيلى بحيث كان قد أصبح بالنسبة لجامعى اللوحات ولصالات القطع الفنية نسيا منسيا على الرغم من أنه يصنف كأحد أهم عشر فنانين تشكيلين فى تاريخ ألمانيا قاطبة وهو الفنان الكبير ورائد الرومانسية المتأخرة والواقعية الفنان كارل فيلهلم هوبنر والذى أشتهر فى عصره أى فى بدايات القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين أشتهر بأنه الفنان الذى فجر القضايا الاجتماعية بلوحاته وأنه أهم أستاذ فى مدرسة دوسيلدورف الألمانية وكان هوبنر فنان ملئ الأسماع والأبصار فى ألمانيا وأمريكا وهولندا حتى أن هتلر كاد أن يضم كل أعمالة لمجموعة خاصة به هو شخصيا بل وكان يعتبره فنان الرايخ الذى عبر عن الشعب بكل أحاسيسه، وليس من الغريب أيضا أن تعتبرة المؤسسات الفنية والنقاد فى هولندا فنان المشهد الاجتماعى بل والبعض يجده امتدادا لأسلوب فيرمير مع بعض الإضافات من الرومانسية المتأخرة والواقعية الأوروبية وهذا ما سوف نوضحه فيما بعد.
يظل كارل هوبنر هذا العلم الخفاق فى الفن التشكيلى فى ذاكرة ألمانيا وأوربا وأمريكا التى زارها وقام فيها بعدة معارض وأنشطة جعلته من أهم فنانى أوربا الذين تركوا أثرا فى الفن التشكيلى الأمريكى الوليد فى القرن التاسع عشر وتظل شهرة هوبنر حتى يتوارى عن المشهد الفنى ومحافل العمل الفنى التجارى بعد الحرب العالمية الثانية فيختفى أى ذكر له بعد نهاية الحرب مباشرة ويطويه النسيان على الرغم من وجود لوحاته فى أكبر متاحف هولندا وأمريكا وألمانيا وظل هوبنر قيمة منسية حتى عامين فقط لكن المصادفة كما قلنا كفيلة بأن تعيد أى فنان للحياة والجدل الفنى والحراك التجارى كما قلنا وهذه المصادفة تأتى عن طريق خطأ أحد مصنفى المقتنيات فى أحد صالات المزادات فى سويسرا حيث يخلط بين أسم كارل هوبنر فنان ألمانيا الكبير وكارول هوبينير أحد فنانى رومانيا فى النصف الأول من القرن العشرين فيصنف أحد لوحات كارل هوبنر على أنها لوحة لكارول ومن ثم يضعها تحت سعر 17 ألف دولار فقط ..! لكن أحد الخبراء المخضرمين يقوم بتصحيح الخطأ أثناء المزاد على اللوحة ويعطل بيعها ويؤكد أنها للعبقرى كارل فيلهلم هوبنر العلم الخفاق فى الفن الألمانى ومن ثم تبدأ الدوائر الفنية فى التنقيب والبحث عن تاريخ كارل هوبنر لتعيده للوجود مرة أخرى ولساحة الجدل فى الفن التشكيلى وفى بحر ثلاثة أسابيع ترتفع هذه اللوحة التى كادت تباع بالخطأ من 17 الف دولار ل11 مليون دولار الأمر الذى حرك مقتنى القطع الفنية وتجار الفن أن يبدأوا فى رحلة مضنية للبحث عن أعمال أخرى لكارل هوبنر خارج المتاحف وضمن المجموعات الخاصة وبعد العثور على تسع لوحات له فى أمريكا ارتفعت أسعار لوحاته لمستوى كبير حتى أن أحدى هذه اللوحات التسعة وصل سعرها ل47 مليون دولار وكان متحف المتروبوليتان قد تفاوض عليها فيما بعد.
لم يكن كارل هوبنر فنانا عاديا بل نستطيع أن نعتبره فنانا شكلته التعددية المكانية والمدرسية فى آن واحد فهو ألمانيا ذو ذوق هولندى وقناعات فرنسية وتطلعات أمريكية لكن قبل أن نتحدث عن كارل هوبنر كفنان تشكيلى ولد فى مقتبل القرن التاسع عشر ومات فى هزيعه الأخير علينا أن نطرح بضع فى اعتبارنا بعض المسلمات وهى التى إذا قمنا بتفنيدها سوف نصل لصورة شبه مكتملة لمدرسة وأسلوب كارل هوبنر، المسلمة الأولى هى ما يعرف بسيادة المدارس الفرنسية المجددة على الذوق الألمانى ومنذ الثورة الفرنسية بحيث كان الأدباء الألمان والموسيقيين يرون فى النموذج الفرنسى الحرية الأوربية وعصر تحرير العقل والذوق وهذا أيضا قد أنسحب على الفن التشكيلى الألمانى منذ الثورة الفرنسية وان كان العديد من المفكرين والأدباء قد أصابهم خيبة الأمل بعد عمليات نابوليون التوسعية وخصوصا بعد أحتلاله للألزاس واللورين ونجد خيبة الأمل واضحة عند كاتب مثل جوته فى روايته هرمن ودورتية كما نجدها عن بتهوفن أيضا إلا أن التأثير الفرنسى فى الفن التشكيلى لم يتأثر كثيرا بخيبة الأمل التى تمخضت عن حلم نابوليون الإمبراطورى التوسعى لذا نجد أن تأثر الألمان بالحركات الفن التشكيلى فى فرنسا لم يتأثر وربما يعود ذلك أن القيم التحررية فى الفن التشكيلى الفرنسى ظلت هى ذاتها ولم تتحول حتى بعد أطماع نابوليون، ومن هذه المسلمة نجد أن كارل هوبنر كان فى مجمل طرحة الفنى يهتدى بالمدارس الفرنسية وخصوصا الرومانسية لكن الحقيقة أن معظم النقاد الذين صنفوه كفنان يتبع المدرسة الرومانسية الفرنسية كانوا غير دقيقين فى هذا التصنيف والسبب فى ذلك أن هوبنر كان أقرب للواقعية الفرنسية من الرومانسية فنحن إذا حاولنا ان نقارن بينه وبين فنانى فرنسا الرومانسيين وجدناه أقرب لألكسندر أنتنا من ألكسندر كابنيل على سبيل المثال لا الحصر أى أنه أقرب للواقعية من الرومانسية لذا فأننا نفضل أن ننسبه لحركة الرومانسية المتأخرة والتى أدت مباشرة لمرحلة الواقعية فى أوربا كلها ونستطيع أن نحصر ذلك فى عدة مظاهر فى أعمال هوبنر أولها أنه فى 80% من أعمالة صور الطبقة الفقيرة والمتوسطة الدنيا بل وصور الكادحين فى أطار ثورى ينتقد المجتمع الذى يزيد من آلام الطبقة العاملة والحقيقة أن هذا كان السبب فى شهرته الواسعة ونقصد هنا بالتحديد لوحته الشهيرة – نساجون سلسيا – والتى كانت جواز مروره لعالم الشهرة والجدل النقدى فهى جديدة من ناحية موضوعها ومن ناحية طرح الموضوع أيضا فهى تصور مجموعة من النساجين الفقراء يبيعون نسيجهم للتجار الكبار ويبدو عليهم الفقر والحاجة كما أنه ليس من الصعب أن تستشف استغلال طبقة التجار لهؤلاء الصناع المساكين، وما أن ظهرت هذه اللوحة حتى أصبحت موضوع الصحافة والنقاد والأوساط الفنية لعدة أشهر مما كفل لكارل هوبنر مكانة كبيرة بين الفنانين المشاهير فى هذه الفترة .
لو حاولنا تفنيد وتصنيف الرومانسية المتأخرة فى فرنسا وايطاليا وألمانيا والتى أدت مباشرة لظهور الواقعية أو نستطيع أن نقول أنها الأم الشرعية للواقعية، نستطيع أن نضع كلمة نصنف بها الرومانسية المتأخرة فى كل دلوه من هذه الدول الأوربية ففى ايطاليا كانت البهجة مع الفقر هى عنوان الرومانسية المتأخرة وفى فرنسا كان الحزن مع الفقر أما فى ألمانيا كانت القناعة مع الفقر هى قوام الرومانسية فنحن فبينما نجد أن الفقر قاسم مشترك فى الرومانسية المتأخرة بين كل الأعمال الفنية فى أوربا أو دعنا نقول أيضا البسطاء هم الموضوع الرئيسى فى العمل الفنى إلا أن كل إقليم طعم هذا الفقر بمشاعر أو دراما أبرزت أبطالة فنحن نجد أن الفنانين فى ايطاليا والبنادقة خاصة قد طعموا مشاهد البسطاء ببهجة لا توصف وفى فرنسا ونتيجة للشعور الدائم بحزن الفراء كان المشهد أكثر قتامه لكن فى ألمانيا نجد خليط غريب وخصوصا عن كارل هوبنر وتلاميذه فيما بعد بوصفه عميد مدرسة دوسيلدروف الألمانية فنجد أن كارل هوبنر يصور دائما هذه الأسر الفقيرة بالرغم من فقرها إلا أنها تشع بقناعة ورضا تجعل المشهد التشكيلى فى اللوحة أية فى الرقى والملاحظ أيضا هو تركيز هوبنر على الأسر الصغيرة الشابة فى ترميز منه بأن الغد والمستقبل فى يد هذه الطبقة .
تتأرجح أعمال هوبنر بين الزحام الشديد وتباين الشخصيات داخل العمل وبين الفراغ الواضح فهو أما يجعل أبطال اللوحة أثنين أو ثلاثة أو مجموعة كبيرة وربما نؤيد الرأى القائل بأنه تعمد الزحام فى لوحته النساجون ولوحته الغامضة – المشاركة – وحيث اتفق الناقد أن اللوحة الأخيرة هى أول لوحة يحاول فيها فنان تصوير ما خلف الحوائط بحيث يوجد رجل وامرأة على المحطة وخلف الحائط يوجد أسرة تتشارك حدث ما على مائدة الطعام، البعض عاب على هوبنر زحام المشهد لكن نراه منطقيا فى معظم أعمالة
يشترك هوبنر مع رسامين فينيسيا الايطاليين فى تصوير مشاهد الغزل بين الشباب والطبقة الكادحة مع بعض التقنيات السردية والدرامية فى لوحات كثرة مثل لوحته – غزل على صنبور الماء – كما نجد أن هوبنر لم يغادر بعض تقنيات الباروك خصوصا فى الرحلة الفلمنكية ولذلك نجد الكثير من النقاد يجعله صنوا لفيرمير فى المشهد الداخلى وخصوصا فى تصوير الحوائط ووضعات الأشخاص مع اتجاهه بالألوان لبعض القتامة ولكن قتامة ليست ناتجة عن كآبة أو سوداوية كما عند رامبرانت مثلا لكننا نستطيع أن نقول أنه مال لاستخدام البنيات المطفأة لأنها تناول موضوعاته كثيرا.