الأحد 18 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«إزورا باوند» الشاعر المغضوب عليه

«إزورا باوند» الشاعر المغضوب عليه






مضى شهر أكتوبر هذا العام هادئا ساكنا، لم تعلن أى هيئة أو حكومة أوروبية احتفالا أو حتى أوقدت شموعا فى صمت، هذا القبر الذى تحوطه المياه والذى يضم رفات أشهر لاعبى الحداثة فى الشعر والثقافة العالمية.. لم يزوره أحد، لم يطبع الآلاف القبل على حوائط القبر كما عند أوسكار وايلد مثلا، ولن يجلس البعض فى قاعات يتلون شعره علنا بكل فخر.. يحبه الجميع فى السر باعتباره الأب الشرعى لحداثة الشعر فى القرن العشرين، لكن ينكرونه علنا.. هكذا يمر الثلاثون من أكتوبر ذكرى ميلاد المعجزة الفكرية والثقافية والشعرية فى القرن العشرين الشاعر «إزرا باوند».. لن يذكره أحد رسميا ولن يرشحه أحد لجائزة ما لكنه كعاصفة حميمة يهب فى صمت على قلوب وعقول مثقفى العالم وشعراء الدنيا فيشمون عطره دون أن يبوحوا بما يختلج داخلهم، إزرا باوند الشاعر المطرود من رحمة التاريخ.. المغضوب عليه من الجميع لأنه تجرأ يوما وهاجم الصهيونية، لأنه تجرأ يوما ونعت الصهاينة بالجزارين القتلة ولأنه قال الحقيقة تعقبته قوى اللوبى الصهيونى فدنست أثار أقدامه على صفحة التاريخ ووضعت على قبره أكاليل الشوك وحرمته أقل تقدير واجب.
على الرغم من مرور47 عاما على رحيل معجزة الشعر والحداثة والثقافة عامة فى القرن العشرين الذى ألقى بأقوى تنبؤات القرن العشرين دون أى حياء حينما تنبأ أن أمريكا التى تدعى أنها كعبة الديموقراطية فى العالم سوف تكون الذراع الأكبر لتوطيد دعائم الصهيونية وتهويد العالم، إزرا باوند هو الذى أطلق الصرخة الأولى فى وجه الزيف الأمريكى والمؤامرة الصهيونية الخفية.
حينما ظهر باوند وحلقته الفكرية ظهرت أقوى سجالات شعرية وأدبية فى القرن العشرين وعاد العالم يحتفى بالشعر كما فى عصوره الذهبية لكن هذا الحلم تحطم بل وتلاشى تماما حينما اقتادت القوات الأمريكية إزرا باوند أسيرا ووضعته عاريا فى قفص من حديد كمثل أقفاص حيوانات السيرك بالقرب من برج بيزا فى نهايات الحرب العالمية الثانية وعومل كأسير حرب وحوكم بتهمة التمرد والخيانة فى وطنه أمريكا لمجرد أنه عبر عن رأية علنا وأيد موسولينى فى حلمه.
وقد رأى شاعرنا فى الفاشية التى قادها موسولينى حركة تطهيرية كبيرة ليعود لأوروبا نقاؤها مرة أخرى وتنتصر على العنجهية الأمريكية التى تقف ورائها سطوة اليهود الاقتصادية ومن ثم كتب أنشودته الشهيرة رقم 45 والمعروفة بأنشودة – أوزورا Usora - والتى تحدث فيها عن سطوة اليهود وتكريسهم للاقتصاد فى خدمة المؤامرة الكبرى بمساعدة أمريكا والحقيقة أن هذه الأنشودة كتبت التراجيديا الحقيقة فى حياة إزرا باوند حيث أضطهد بسببها حتى رحيله عن الدنيا، وقد خطا إزرا باوند خطوة أكبر فاشترك فى حملة موسولينى وخصص له برنامجا إذاعيا فى إذاعة روما ناطقا بالانجليزية صب فيه جام نقده على السياسيات الامبريالية الأمريكية ودعى المواطن الأمريكى لأن يعيد النظر فى قناعاته السياسية بصفته مواطنا يحلم بديمقراطية تسود العالم وحذر من خطورة اللوبى الصهيونى وانه يقود بسطوته الاقتصادية أمريكا إلى ما يريد هو ليس كما يريد الشعب الأمريكى ذاته .
الحقيقة أن تقييم إزرا باوند كشاعر أصعب من أن نتناوله فى مقال أو حتى كتاب لكنه يوصف بأنه قائد مركبة الحداثة فى الشعر فى القرن العشرين وعلى الرغم من ذلك يتجاهل الكثيرون فضلة على الشعر وينسبونه لتلاميذه مثل إليوت مثلا والذى لا ينكر هو ذاته انه تلميذ إزرا باوند.
لقد أدى الاتصال المباشر لإزرا باوند بالثقافة الأوربية سواء بالدراسة أو المعايشة ووصوله لينابيع الشعر الأوربى لأن يصبح باوند أشهر مطور لمذهب التصويرية فى الشعر imagism والذى عمل علية بصورة أبداعية وتخليقية وأثبت نظريته من خلال فكرة الحرف والصورة فى الكتابات الأسيوية – اليابانية والصينية – وحيث كان يجيد اللغات الأسيوية وترجم عنها فنقل للانجليزية شعرا من الأدب اليابانى والصينى .
كان للتقنيات الصوتية فى شعر إزرا باوند دورا كبيرا فلقد أولى أهمية كبيرة للوقع الدرامى للحرف وتركيب الجملة سواء من الناحية الموسيقية أو النطقية والسبب فى ذلك أن باوند كان دارسا ومتذوقا للموسيقى حتى أنه كان المسئول عن تنظيم حفلات الموسيقى الكلاسيكية فى راباللو وكانت حبيبته أولجا رودج عازفة شهيرة لآلة الكمان وكان دائما يقول أن الشعر هو نتاج المزاوجة بين اللفظ والموسيقى، وكل من يستمع إلى قصائد باوند الذى ألقاها بصوته سوف يعرف من أول وهلة إلى أى مدى اهتم بالدراما الشعرية والموسيقى فى شعره.
قبضت السلطات الأمريكية على أزرا باوند بعد هزيمة موسولينى فى الحرب العالمية الثانية وبعد اعتقاله شهورا فى معسكر القوات الأمريكية فى برج بيزا أرسل مقبوضا عليه إلى أمريكيا وحوكم بتهمة الخيانة والتمرد بسبب تأييده للفاشية وحاولت المحكمة اثبات أن عقلة تأثر من فترة الاعتقال فحكم عليه بالسجن فى مصحة عقلية تدعى سانت إليزابيث وبعد أن قضى بها 12 عاما قام تلاميذه ومريدوه وعلى رأسهم أليوت بجهود مضنية حتى استصدروا قرار بإطلاق سراحه عام 1958 وفى الحال قرر باوند العودة لوطنه الذى اختاره والذى قضى فيه أخصب سنوات عمرة إيطاليا وظل هناك حتى رحيله عام 1972 وحيث مات ودفن فى فينيسيا .
ولد الشاعر الأمريكى إزرا لوميس باوند فى أيداهو بالولايات المتحدة الأمريكية 30 أكتوبر عام 1885 وتفوق فى دراسة الشعر واللغات حتى أصبح مدرسا جامعيا فى سن صغيرة وكانو يطلقون عليه معجزة الشعر بل وكانوا يصفونه أيضا أنه أعلم أهل أمريكا بالشعر، وعلى أثر مشكلة حدثت فى الجامعة التى كان يدرس بها سافر لبريطانيا وقضى فى لندن 12 عاما وتزوج قريبة الشاعر الانجليزى يتس الذى أحبه باوند لدرجة التقديس وهى الأنسة دروثى شكسبير ثم رحل لباريس وهناك تعرف على أرنست همنجواى وبعد أربع سنوات رحل لراباللو فى إيطاليا والتى كانت تابعة لانجلترا آنذاك ودرس الشعر الإيطالى وظل فى إيطاليا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية مؤيدا لموسولينى والذى بسببه أتهم بمعاداة السامية والتمرد وحوكم كما ذكرنا، فى الخمس عشر سنه الأخيرة من حياته دخل فى حالة من الصمت الاختيارى وكان قد كتب لأحد أصدقائه رسالة قال فيها (صمتّ ليستمر زيف العالم).