الثلاثاء 26 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
نجيب محفوظ وحارة المعجزات.. وصالون النقد الفنى

نجيب محفوظ وحارة المعجزات.. وصالون النقد الفنى

لم يكن فى الحسبان أن يتخذ صاحب الفكرـ فى مطلع حياته ــ قرارًا  بكتابة رسالة ماجستير عن « الفلسفة الإسلامية « تعزيزًا لشهادة « ليسانس  الفلسفة « التى نالها من جامعة القاهرة فى العام ١٩٣٠؛ ثم يعدل عنها متفرغًا  للكتابة عن قيعان الحارة المصرية العريقة وقاطنيها منذ قديم الزمان ؛ وكان هذا التحوُّل ليس بالمُستغرب لكونه  نتاجًا لنشأته فى حارة من أقدم حارات «قاهرة المعز» بالجمالية .  والمدهش أنها كانت مفتاح شهرته فى حقول الثقافة  والأدب على الساحة المصرية والعربية والعالمية ؛ وسببًا فى خروج  واحد ممن دافع عنهم فى كتاباته  عليه منها غارسًا ــ فى رقبته ــ السكين وحقد المغيَّبين؛ فى محاولة فاشلة لاغتياله؛ ونسوا أن «الفكرة» لاتموت.. حتى (لو) مات صاحبها مغدورا به!  بالتأكيد..  لست فى حاجة إلى أن أقول إننى أتحدث عن امبراطور الرواية العربية  الأديب نجيب محفوظ ــ وصاحب «جائزة نوبل» كأول عربى يتم منحه إياها ــ والمتربع على عرش الكتابة الأدبية ــ والرواية تحديدًا ــ منذ منتصف  الثلاثينيات من القرن الماضي؛ مذ نشر قصصه القصيرة فى مجلة «الرسالة»؛  ففى العام ١٩٣٩ نشر روايته الأولى «عبث الأقدار» التى كانت إرهاصة  لثلاثيته التاريخية الأولى؛ ثم «كفاح طيبة» و«رادوبيس»؛ والتى استخدم  فى إنتاجها تلمُّس الخطوات الفكرية فى «الواقعية التاريخية» وتأثير تلك  الواقعية على التركيبة النفسية والعقائدية للإنسان المصرى العائش على ضفاف  النيل الرقراق الأخضر وإنسان الصحراء بتكوينه البدوى وشهامة الفرسان . ولكن لطبيعة المفكر الباحث عن محاولة مستمرة ودءوب لتغيير الواقع إلى  الأفضل ؛ قام «نجيب» بتوجيه دفة قلمه الفياض إلى العودة إلى الواقعية  المجتمعية متسارعة التغير والتحول والتبدل؛ نتيجة احتدام صراع الحضارات  التى نشرت شموسها على ربوع العالم؛ فكان من الضرورى أن يواكب العصر وصراعاته المادية الطاغية؛ فأبدع روايته «القاهرة الجديدة» ثم «خان الخليلي»  و«زقاق المدق»؛ فكانت بمثابة «كاميرا» ترصد الواقع المصرى بكل  تفاصيله الدقيقة فى الشارع والحارة والزقاق والعطفة؛ وحتى تجليَّاته فى رؤية  شفافة راصدة لما يحدث وراء الجدران؛ وانعكاساتها على الشخصية المصرية..  بداية  من «الباشا» حتى أبسط مواطن يسعى لاكتساب لقمة العيش.    ولعل اهتمامه بعالم «الفتوة» و«الفتونة»؛ جاء نتيجة حتميَّة لما كان  يراه من لجوء الفقراء ومن لاسند لهم؛ لمن يحميهم ويحمى بناتهم من سطوة الأشقياء المحرضين من «العساكر الإنجليز» تطبيقًا  لسياسة « فرق تسُد» لرأب الصدع فى جدران الحارة وأهلها . ولأن النهر  لايتوقف عن الجريان .. تحول «نجيب» مرة أخرى إلى رواية الواقعية  الاجتماعية فى رائعته «بداية ونهاية» وثلاثية القاهرة؛ حيث كان «القلم» فى  قمة النضوج والرؤية الكاشفة لما يدور بين جدران الحارات وخلف أبواب البيوت.  ولكن لجموح أفكاره وقريحته الفذة فى اللجوء إلى عالم الأفكار  الصوفية  والتطلع إلى ما وراء الطبيعة وعالم الميتافيزيقا؛ والخروج  فى  كتاباته من دائرة الواقعية الاجتماعية؛ إلى الواقعية الرمزية متلامسًا مع  «لعبة» الإسقاط السياسي»؛ جاءت روايته»أولاد حارتنا» بكل  أبطالها من «الفتوات» و«الحرافيش؛  ليجعل البشر على وجه الأرض يتجادلون  فيما بينهم؛ عن كيف نعيش حياتنا.. وهل نكون من الحرافيش أم من الفتوات؟   تلك المعضلة التى فتحت عليه أبواب جهنم من  سدنة السلطة و»الملكيين أكثر من  الملك»؛ وبخاصة لصدورها فى «عام ١٩٦٧» عام الحزن ؛ فأوعزوا بوقف نشر تلك  الرواية فى ربوع مصر؛ ولكن تلقفتها دور النشر فى لبنان ليقرأها القاصى  والدانى فى ربوع العالم .  وكان لـ«عبدة التراث» رأى آخر فى التأويل لشخوص  الرواية وأبطالها ؛ بداية من «الجبلاوى» و«ادريس» و«جبل» و«عرفة» و«قاسم»؛ وكان المتطرفون أشد غيظًا وحقدًا على الرجل؛ لاعتقادهم  الخاطيء أن «موت الجبلاوى» هونهاية الكون؛ لأنهم لايعرفون للفنون والآداب والقيم الجمالية طريقًا!  والجديربالذكر ـ كطُرفة ـ فى حياة نجيب  محفوظ؛ أنه عند عودته إلى منزله فى ليلة حصوله على جائزة نوبل .. فرح بشدَّة عندما رأى الرصيف أمام منزله وقد امتلأ بأوان فخارية تحمل زهورًا جميلة.. لا شك أن من وضعها هم بعض المحبين والمعجبين كطريقة للتعبير  عن فرحهم بحصوله على الجائزة.. ثم زاره رئيس الوزراء عاطف صدقى فى البيت  لتهنئته فى صباح اليوم التالى.. وكانت دهشة محفوظ كبيرة عندما لاحظ  اختفاء هذه الأوانى والزهور بمجرد انتهاء زيارة رئيس الوزراء.. ليكتشف  أنها وضعت احتفاء بقدومه إلى بيته وليس احتفاء بحصول محفوظ على  الجائزة ! ألهذا الحد لم نعرف قيمة أبوالسرد عملاق الأدب الروائى نجيب  محفوظ حتى فى لحظة حصوله على هذه الجائزة الرفيعة المقام حينها واحتفاء العالم به ونحن أهله نفتقد إلى أقل الذوقيَّات وهى أن نزيِّن بيته بالورد  لنشعره بامتناننا تجاه عطائه الإبداعى الذى قدره الغرب  ورفع اسم مصر عاليًا..وتمر الأيام ونكتشف مع مرورها فهمًا أعمق وتقديرًا لإبداعاته تمثلت فى  تجسيد رواياته فى أعمال سينمائية من بلدان مختلفة ..وهذا العام وفى ذكرى  يوم ميلاده يقع الاختيار من القائمين على الصالون الثقافى الشهرى بالمعهد العالى للنقد الفنى بأكاديمية الفنون  على اختيار الفيلم المكسيكى  المترجم إلى العربية (حارة المعجزات) المأخوذ عن رواية (زقاق المدق) ليكون  محور احتفالية الصالون فى اليوم ذاته الذى يوافق ذكرى ميلاد محفوظ بحضور د.أشرف زكى رئيس الأكاديمية والدكتورة نيفين الكيلانى عميد المعهد، ود.فتحى عبدالوهاب مدير صندوق التنمية الثقافية،واعتلى المنصة الدكتور وليد سيف الذى تحدث بطلاقة مسهبة عن السينما المكسيكية وعن الفيلم المعروض وإبداع محفوظ الخلاق والملهم للمهتمين بالفن الروائى المصرى والعربى مما يعزز الانفتاح وتلاقى الحضارات والثقافات بين الدول؛ ويحقق دور الفن والأدب فى آن معا ،وأدارت الجلسة د.أمانى فؤاد وأضاف للاحتفالية المزيد من الرونق حضور ومشاركة الفنان القدير عزت العلايلى -الذى شارك فى ١٢ عملًا من أعمال محفوظ السينمائية -، ومشاركة الفنانة المحبوبة صفية العمرى التى جسدت دور حميدة فى مسلسل زقاق المدق باقتدار  .وجدير بالذكر تعاون متحف نجيب محفوظ فى الأمسية بمشاركة الروائى الكبير يوسف القعيد الذى أعد للسينما فيلم (المواطن مصري) والذى جمع بين النجمين الضيفين ممثلا لمجلس أمناء متحف نجيب محفوظ وقام بالتعليق على الفيلم ساردا بعض الذكريات التى جمعته بأديبنا المحتفى به .وها هى باقة الورد التى يهديها أساتذة المعهد العالى للنقد الفنى ونجوم الفن والحضور لأديب الروائع التى تمناها مزينة لمنزله ذات يوم  فى ذكرى ميلاده التى أحياها هذا الصالون الثقافى بزخم المحبة والتقدير ليس فقط لفن نجيب محفوظ بل لشخصه أيضًا.