الثلاثاء 26 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الواحات الثقافية.. وأكسجين الثقافة!

الواحات الثقافية.. وأكسجين الثقافة!

بالتأكيد .. كلنا يذكر مشهد المحكمة فى مسرحية «شاهد ماشافش حاجة» بطولة الفنان عادل إمام؛ والحوار المُضحك المُبكى الدائر بينه وبين «برعي» حاجب المحكمة ـ وهو الممثل الفنان سامى جوهر، الذى لا يعرف اسمه أحد ـ حين دار بينهما حوارٌ يُعد قمة فى الدراما المجتمعية القاسية والمؤلمة؛ ويبدأ الديالوج بينهما بسؤاله عن راتبه الشهرى  وعدد أولاده وعائلته التى يقطن أفرادها الأحد عشر داخل حجرة واحدة، لتأخذ الدهشة بتلابيب «الشاهد اللى ماشافش حاجة» عن كيف يتركون «الشقة كلَّها» ويتكوَّمون فى حجرة واحدة ؟! لتأتى إجابة الحاجب التى تعكس عمق المأساة  : هيَّ الشقة كُلَّها حجرة واحدة .. يا سيَّد ! لا أدرى لماذا يقفز إلى ذهنى هذا المشهد الدرامي؛ كلما قمت ـ بحكم اهتمامى الشخصى والأكاديمى بالحراك الثقافى على الساحة المصرية ـ  بحضور الأمسيات الفنية والأدبية داخل «دارالأوبرا» أو أحد قصور الثقافة المنتشرة على امتداد خريطة وادى النيل من حلايب وشلاتين حتى المدن الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.  هذه القصور العملاقة التى خرجت إلى النور فى حقبة الزمن الجميل فى ستينيات القرن الماضى تحت اسم «الثقافة الجماهيرية»، لتتحول فيما بعد إلى هيئة عامة تحمل اسم «الهيئة العامة لقصورالثقافة»؛ وكان الهدف من إنشائها هو رفع المستوى الثقافى وتوجيه وتشكيل الوعى القومى للجماهير فى مجالات السينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية والتشكيلية؛ ونشر المكتبات التى تشجع النشء على الاطلاع وزيادة الثقافة المعرفية لديهم بقضايا الوطن؛ إيمانًا من الدولة بأن بناء الإنسان يأتى قبل بناء المصانع. وعلى قدر إعجابى بوجود هذه «الواحات» الثقافية فى جنبات المجتمع؛ ومساحاتها الشاسعة التى تضم قاعات المسرح والسينما وقاعات المكتبات المكيفة والمزودة بالعديد من أجهزة الكمبيوتر، والقاعات المخصصة لورش السيناريو، ومعارض الفنون التشكيلية، إلا أننى لا أخفى حزنى على «الخواء» الذى تعانى منه تلك القصور فى ظل غياب الجماهير صاحبة الحق الأصيل فى الثقافة والمعرفة، ولعل السبب فى هذا الغياب هو اقتصار النشاط  الشعرى والأدبى على أمسية «يوم واحد» فى الأسبوع .. وربما فى الشهر!؛ والغريب هو الإصرار على إغلاق قاعات «الكمبيوتر» بالمكتبات لأنها «عُهدة» على أمين المكتبة ويجب الحفاظ عليها من سوء الاستعمال !  ولأن شر البليَّة .. ما يضحك ! فإننى لهذا أتذكر حوارالزعيم عادل إمام مع «برعي» حاجب المحكمة؛ والبلاهة التى يرتكبونها بترك «الشقة كُلَّها» والجلوس والأكل والنوم والمعيشة فى « أوضة واحدة» ! وهذا ما تفعله ـ للأسف ـ قصور الثقافة التى تقوم بتطبيق مبدأ هذا الـ «برعي»؛ وتترك المساحات الشاسعة التى  تستطيع أن تملأها بكل  الأنشطة الخلاَّفة على مدار أربع وعشرين ساعة؛ لتكون تلك الدور بحق منارة مضيئة وسط أمواج المجتمع العطشى لكل ألوان الثقافة والمعرفة . وكم تخيلت خلال تجوالى فى الساحات الغنَّاء حول دار الأوبرا المصرية؛ فأرى بعين الخيال كأننى أجوب «حى الرسامين» فوق هضبة «مونمارتر» المطلَّة على مدينة «باريس» عاصمة النور والسحر والفن والجمال؛ ويُعد هذا الحى من أهم وأجمل مزارات السائحين؛ نظرًا لوجود المقاهى والكافيتريات والمطاعم التى تقوم على خدمتهم بأقل الأسعار؛ تشجيعًا لاجتذابهم واكتسابًا للعوائد المنتظرة من جيوب السائحين .  وكم تمنيت بعين الواقع والحقيقة؛ أن أرى قاعات قصور الثقافة وساحات دار الأوبرا مفتوحة ليل نهار ليرتادها كل عشاق الفنون التشكيلية والرسامين والنحاتين؛ وعاشقو فنون الأدب والشعر والموسيقى؛ فهذا هو الدور الحقيقى المنوطة به وزارة الثقافة؛ وبخاصة فى مجتمعاتنا التى تغلب عليها الأميَّة المغيبة للعقل والفكر والإبداع والابتكار، وليس المقصود بالأميَّة : القراءة والكتابة .. فهناك الكثير ممن لا يقرأون سوى الكتب الصفراء وكتَّابها الذين مازالوا يعيشون بأفكارهم فى ظلمات وغياهب العصور الوسطي؛ تلك الكتب التى تستقطب البعض إلى مسارات بعيدة كل البُعد عن روعة وجمال الفنون التى ترتفع بالذائقة الجمالية إلى أعلى مراتب الروح الإنسانية بفضائلها التى يجب أن يكون عليها الإنسان. وقد تجنح بى الأمنيات بأن أرى ـ كنموذج ـ  حلقة للشعراء حول تمثال «شوقي»؛ وحلقة للمطربين والمطربات حول تمثال «أم كلثوم»؛ وجمع من الموسيقيين حول تمثال موسيقار الأجيال «محمد عبد الوهاب» ، فهذا على الله ليس ببعيد! فمصر التى أنجبت صاحب تمثال «نهضة مصر» بإزميل حفيد الفراعنة المثَّال محمود مختار، والعشرات من الفنانين فى كل الفروع وأثروا الساحة على مدى عقود من الزمن، ننتظر منها إعطاء الفرصة للمئات من هؤلاء العظماء؛ فالأوطان بلا أفنان تغرد فوقها البلابل والعصافير؛ ستكون ساحة لسلالة «الغراب النُّوحى» الذى هرب من السفينة ولم يعُد ! وفى تقديرى أن هذا الدور الحيوى المطلوب من وزارة الثقافة؛ لن يتم إلا فى وجود المسئولين الذين يؤمنون برسالة الفن السامية، وضرورة التخلى عن جوقة «الموظفين» الذين لا يعنيهم سوى الحفاظ على «العُهدة» والحصول على «المرتب»، وعلى الثقافة والمثقفين السلام!  وحتى لا تنطبق المقولة التهكمية لرجل الشارع الذى يستخدم كلمة «قصور.. قصُور الثقافة» بمعنى التقصير والتقاعس والتخلى عن دورها بالفعاليات الإيجابية داخل المجتمع. الحاجة ملحَّة وضاغطة.. لملء فراغات الحجرات والعقول .. حتى لا نفقد  أكسجين الثقافة والفنون الجميلة؛ ونختنق بثانى أكسيد الكربون فى «أوضة واحدة» بحسب ما جاء على لسان حاجب المحكمة  الشهير بـ «بُرعى»!