الأحد 18 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
جلبرت ستيوارت.. صاحب الألف بورتريه

جلبرت ستيوارت.. صاحب الألف بورتريه

لعلنا لن نخطئ إذا قلنا إن تاريخ الفن التشكيلى فى الولايات المتحدة الأمريكية من بداية نشأته لم يكن بهذا الزخم الذى يمكن الحديث عنه بشكل نقدى وتحليلى بالمرة بل لعله العكس حتى فى بدايات الحركة التشكيلية فى القرن الـ 17 لم يكن يميز الفن الأمريكى أى خطوط بل كان كما هو الحال فى بدايات الفن التشكيلى فى أوروبا عند الإغريق والرومان فيما قبل الميلاد فى عصر فيدياس وبوليكليتيس حيث كان الفن حرفة من الحرف التى تتطلب الإتقان لأن لها دورًا مدنيًا مهمًا وهى جزء من حضارة البناء ليس أكثر ولا أقل ومن ثم كانت أمريكا تستنسخ أوروبا بشكل آلى ودون تطوير وحتى هذا الاستنساخ كان مقصورًا على عدة اتجاهات أهمها المشاهد الخارجية التى تتخذ من الطبيعة ملعبًا لها والبورتريه الذى ظل مسيطرًا على الحركة التشكيلية فى أمريكا قرابة ثلاثمائة عام وأيضًا الرسوم التوضيحية أو الإليستريشن التى ازدهرت بشكل كبير لكثرة الدوريات الصحفية الذى كان له دورا كبيرا فى النهضة الأمريكية ومن ثم كان لفنانى الحفر الطباعى مكانة مميزة بين كل الفنانين التشكيلين فى أمريكا، فى الحقيقة أن هذا الفقر الذى لحق بالفن الأمريكى وسيطر عليه لفترة ليست بالقليلة وربما حتى بدايات القرن العشرين كان سببه أمرين، أولا أن أمريكا لم تكن وطنا لأحد بل هى مجرد مسقط رأس لمجموعة من المهاجرين مختلفى الألوان والمشارب والتوجهات حيث كان من الصعب بل من المستحيل تكوين ذوقا عاما يجمع كل هذه الفئات، وثانيا كانت نوعية المهاجرين الذين هاجروا من أوربا لأمريكا هم المنبوذين والهاربين من المجتمع الأوربى لعلة ما ومن ثم لم يكن بينهم هذا الجيل الذى يستطيع تغذية المجتمع الوليد بهذا العنصر الهام والذى يسمى الفن التشكيلي. وهكذا كانت أمريكا ولعدة قرون هى مجرد السوق الذى يتم فيه تسويق الأعمال الفنية للنابهين من أوربا والذى ترتب عليه أن تكون المذاهب الأوربية هى التى تتحكم فى الفن التشكيلى الأمريكى ولكن ليس كل أنواع ومشارب الفن فى أوربا بل ما يناسب المجتمع الأمريكى فقط بحيث تتحقق مقولة إيمرسون حيث قال - كيف لمجتمع النسبة الأكبر منه من الرعاع ورعاة البقر أن يتذوقوا الفن التشكيلى بمعناه المتخصص - والحقيقة بالرغم من أن كلام إيمرسون فيه بعض التحامل إلا انه يحمل الكثير من الحقيقة فى الفن التشكيلى الأمريكي. لكن الحقيقة أن الفن التشكيلى الأمريكى ظل قاصرا وربما حتى الآن والدليل على ذلك هو انطلاقه بقوة الصاروخ نحو ما بعد الحداثة دون أن يكون لهم أساس من الفن التقليدى اللهم ذلك المستوى الذى ذكرناه من الحرفة والبورتريه وفن الحفر الطباعي. هذه المقدمة هامة للغاية حينما نحاول ان نفتح نافذة نحو عوالم فنان أمريكى كبير يعتبر من أهم الأمثلة التى تختزل فى فنها كل ما ذكرناه فى صفات الفن التشكيلى الأمريكى بل لعلنا لن نبالغ إذا قلنا أن فنانا اليوم جيلبرت ستيوارت هو المثال الأكمل على روح الفن التشكيلى الأمريكى. يتمتع جيلبرت ستيوارت بشهرة عالمية ومعرفة بين كل سكان الكرة الأرضية وأن كنا لا نعرفه أسما لكننا نعرفه من خلال أهم أعمالة وهو بورتريه شهير لأول رئيس أمريكى لأمريكا الفيدرالية الموحدة جورج واشنطن والذى طبع على العملة الأمريكية فئة الدولار الواحد وتم اختياره من ضمن مجموعة كبيرة لبورتريهات جورج واشنطن التى أنجزها جلبرت ستيوارت كما استخدم أيضا بورتريه جورج واشنطن من نفس المجموعة المعروف باسم بورتريه - الأثينيوم - كطابع بريد امريكى ظل متداولًا ما يقرب من مائة عام، وأصبح رسام البورتريه الأمريكى الأشهر والأكثر مشاهدة حتى دون أن نعرف اسمه . يعتبر البورتريه الأمريكى هو الوريث الشرعى للبورترية الإنجليزى مع بعض التغيرات التى أهمها أن يتحول البورتريه لعمل رسمى بحت ويصبح رسام البورتريه مجبرًا على أن يقدم سمات ربما قد يخلو وجودها من صاحب البورتريه ذاته وأهمها النبالة والهدوء ووضوح السمات وراحة القسمات والمقصود هنا براحة القسمات هو تقديم ملامح صاحب البورتريه فى صورة مريحة للنظر والعين وهى ما يعرف بحالة السكون الوجهى أو اتزان الشعور بحيث يكون الوجه غير معبر عن السعادة أو الحزن أوالهوى أو غيره ومن ثم تبقى فقط راحة القسمات وسمات النبالة التى يجب أن تكون هى حجر الزاوية الأساسى فى تقديم شخصية البورتريه، وهذا ما وجدناه عند جلبرت ستيوارت والذى يطلق عليه - رجل البورتريه الأمريكى- حتى أن بعض النقاد فى أوربا عابو عليه الجفاف فى المشاعر وتصلب الوجه الذى قدمه فى بورتريهاته حتى أن الناقد الإيطالى لويجى فانوتشى يقول - كيف حطم جلبرت بهذه الصورة الفظة ابتسامة جورج واشنطن لقد كان واشنطن رجلا بساما - ونحن فى الحقيقة نؤيد بشدة كلام فانوتشى فلقد أبتعد جلبرت ستيوارت بخطوات كبيرة عن ما يعرف بحركات الشعور فوق الوجه وقدم وجوهه فى حالة ارتخاء وتصلب شعورى فى نفس الوقت حتى يعلى من قيمة الجدية والنبالة فى مقابل الواقع التشخيصى للبورتريه ومع الأسف كان هو أيقونة البورتريه الأمريكى الذى حذا حذوه العديد من الرسامين فكانت أعمالهم صورة باهتة لمدرسة البورتريه الإنجليزى الذى غلب عليه الوقار والنبالة دون أى اعتبار للواقع التشخيصى. بالرغم من ذلك لن نكون على طول الخط ضد منهج جلبرت ستيوارت فى أعماله فنحن إذا نظرنا لزبائن ستيوارت وجدناها شخصيات رسمية وذات سطوة سياسية ومجتمعية كبيرة ومن ثم كان من الصعب على ستيوارت أن يطلق لنفسه العنان فى تقديم بورتريه واقعى لشخصية عامة قد يجد على ذلك لوما كثيرا ويفقد دريهماته وحظوته التجارية لدى زبائنه من الشخصيات العامة التى تستطيع أن تدفع بسخاء ولعله قد تعلم من صغره درسا فى انجلترا وكان عمره لا يتجاوز الثامنة عشر حينما كان هناك للدراسة وأسند إليه رسم بورتريه للمحامى الإنجليزى الشهير وليام جرانت وأطلق جلبرت لنفسه العنان فاختار وضعة غريبة حيث رسم جرانت وهو يتزلج على الجليد حتى ان البورتريه معروف باسم - المتزلج- وعاب النقاد عليه وشنوا حملة ضخمة أظهروا فيها عيوبا تقنية كبيرة فى أسلوب جلبرت ستيوارت فى انجاز البورتريه وأهمها أن النصف الأعلى لجرانت غير متوافق مع النصف الأسفل لأن النصف الأسفل أنحف بشكل واضح وهذا يعتبر خطئا تشريحيا حتى أن بعض النقاد قالو أن جلبرت ستيوارت لن يستطيع أنجاز بورتريه تحت الزر الخامس والمقصود عند نهاية الصدر حيث يكون الزر الخامس فى السترة، وكان من جراء هذا الهجوم أن رفض وليام جرانت إعطاء جلبرت أجره ولم يحاول هو ان يطالب به لأنه لم يرد أن يدخل فى نزاعات مع جرانت أو ربما لأنه أقتنع بسهام النقد التى استقرت فى البورتريه فحطمته، لكن فى تقديرنا الشخصى أن بورتريه وليام جرانت المعروف بالمتزلج يظل من أهم البورتريهات الكلاسيكية التى تم انجازها فى القرن الثامن عشر وبشهادة جمع من النقاد فيما بعد بل يكفينا أن نقول أن البورتريه قد تم تثمينه فى عصور متعاقبة حتى وصل لأكثر من 18 مليون جنيه استرلينى من قبل مثمنين سوثبى وكريستيز. أنجز جلبرت أكثر من 1000 بوترية لشخصيات عامة تتفاوت فى درجة أهميتها وربما هنا علينا أن نذكر القاريء أن الفوتوغرافيا لم تكن قد اخترعت بعد ومن ثم كان ستيوارت يعتبر مصور المشاهير كما هو معروف الآن فى عالم الفوتوغرافيا.