الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
بوليزيانو نجم عصر النهضة ومعلم أسرة آل ميدتشى

بوليزيانو نجم عصر النهضة ومعلم أسرة آل ميدتشى

(أعتقد أن هذه أكبر خسارة لفلورنسا هذا العام أن يرحل نبيلين من نبلاء الفكر والأدب.. هذا العام خليق بأن يطلق عليه عاما أسودا بكل ما تحمله الكلمه من معنى.. بوليزيانو يرحل فجأه ثم يتبعه ميراندولا بأقل من شهرين.. والكل يقول انه مرض غامض ؟ لا تعرف عزيزى ماسيمو مدى نكبة الفكر والأدب بفقد عالمين عظيمين مثل هذين على الرغم من صغر سنهما.. أن خسارتنا لا تعوض). أن هذا المقطع من خطاب جويدو أمباشى أحد نبلاء سيينا والمؤرخ فى 20 ديسمبر عام 1494 وعلى ما يبدو ان أمباشى كان قد وصله للتو خبر رحيل الفيلسوف الإيطالى الفلورنسى جوفانى بيشو ديللا ميراندولا وهو أحد نجوم فلورنسا فى عصر النهضة وحيث رحل بعد أن رحل أحد أعظم المثقفين والأدباء الفلورنسيين وهو الشاعر والمعلم العظيم أنجلو أمبروجينى الشهير ب – بوليزيانو – والذى ملأ عصر النهضة بالفكر والثقافة الكلاسيكية بترجماته الشهيرة لأعظم المؤلفات الكلاسيكية مثل الألياذه لهوميروس واشعار فيرجيليوس وكاتللوس والعديد من الأعمال والدراسات اللغوية والنقدية ، والحقيقة أن بوليزيانو هو موضوعنا لأسباب عديدة أولهما أن أحدث ترجمة لأعمالة صدرت منذ بضعة أسابيع عن مطبوعات جامعة هارفارد بتعليق وترجمة أكاديمى ومترجم نحرير هو البروفيسور بيتر نوكس وهو رئيس قسم الدراسات الكلاسيكية بجامعة كيس ويسترن ريزيرف بولاية أوهايو الأمريكية وكما انه صاحب صولات وجولات فى الدراسات الكلاسيكية وترجمات نصوصها ، الحقيقة أن ترجمة أعمال بوليزيانو هى عمل تكتنفه مخاطر عدة خصوصا ان المتخصصين يجدون صعوبات لغوية عديدة فى ترجمات هذه الفترة فيما قبل الرينيسانس مع دانتى وبداية استخدام اللاتينية العامية بديلا عن اللاتينية بشكل جزئى وحتى استخدامها بشكل أكثر تعميما فى بداية عصر الباروك ، أيضا الثقافة السائدة فى عصر النهضة وظهور مذهب ال(هيومانيزم) والذى كان أحد نجومه بوليزيانو نفسه وهى حركة أعادت لدائرة الضوء الآداب الكلاسيكية اليونانية واللاتينية كما أنها أيضا احتفت بالفلسفة الأغريقية ونسختها الرومانية الأكثر تطورا فظهرت فى هذه الفترة الأفلاطونية الحديثة والأبوللونية واستعادت أوروبا اهتمامها بحضارتها القديمة وأدبائها العظماء ولهذا السبب فإن الترجمات التى تتعرض لبوليزيانو كلها يجب وأنت يكون صاحبها متخصصا فى عدة عصور متباينة ما بين هلينى وهيلنستى وعصر النهضة وإذا فقد إتقانه للغات وثقافة هذه العصور ذهب جهده فى ترجمة بوليزيانو سدى ، ولذا فنحن نرى أن فى ترجمة رائد عظيم فى الدراسات الكلاسيكية مثل البروفيسور بيتر نوكس كانت من أفضل الترجمات التى تصدت لبوليزيانو. ولعلنا نلفت نظر القارئ العزيز أن الحديث عن بوليزيانو كأديب ومفكر نابغة بل يصل إلى حد الإعجاز حديث محفوف بالمخاطر مثل ترجمته تماما لعدة أسباب اولاها الحظوة التى وصل إليها بوليزيانو والمكانة الرفيعة فى قصر آل ميديتشى حكام فلورنسا الذى ينسب إليهم المجد الحضارى فى فلورنسا بل وجزء كبير من إيطاليا فى عصر النهضة ، لقد وصل بوليزيانو إلى أن يصبح المعلم الخاص لأبناء قصر ميديتشى وهو لم يتعد بعد سن العشرين بل لقد بدأ فى التدريس فى الجامعة الأفلاطونية الشهيرة فى فلورنسا وهو لم يزل بعد ابن ال17 عاما (وفى بعض المصادر 18 عاما) وهذه المكانة لم يصل إليها أحد فى فلورنسا وأيطاليا قبل ذلك ، وهذه المكانة تبين لنا كيف كان بوليزيانو نابغة وذا موهبة كبيرة على صغر سنه وهذه إحدى الصعوبات التى تواجهنا فى الكتابة عن بوليزيانو كذلك علاقته الملتبسة بأسرة ميديتشى والتى يشوبها الغموض بعض الشيء ، لكن علينا أن نقول أيضا ان ترجمات بوليزيانو والتعليق على تراثه الأدبى ليس هو الشغل الشاغل للباحثين فقط بل هناك أبحاث ودراسات كثيرة ومتشعبة عن حياته وموته الغامض وحيث ربط الكثيرون بين موته الغامض فى سن الأربعين وبين موت بيشو ميراندولا فى سن ال31 ويصل بين موتهما اقل من شهرين ودعنا ننظر لهذه الوثيقة بإمعان حتى يتثنى لنا أن نعرض لمشكلة تناول حياة بوليزيانو بالبحث ، عثر ماركو جينوفيزى وهو أحد أمناء المكتبات العام فى رافينا على وثيقة تم ترميمها تعود إلى قبيل موت بولزيانو تقريبا باربعة أشهر وعلى مايبدو أن كاتبها رجل دين يخدم ضمن حاشية آل ميديتشى والوثيقة خطاب موجه لرجل دين آخر غير معروف اسمه دراكو أنطونيو ومن المحتمل أن يكون هذا اسما مستعارا ويقول الخطاب ( الكل هنا غاضبون وأنا معهم ولا أستطيع ان افصح عن مدى غضبى وحنقى على هذا الأنجلو الذى لا يستحق أسمه والذى يبدو للجميع معلما فاضلا على الرغم من أنه أسوأ أخلاقا من الشيطان ذاته ولا تستطيع مياه التيبر كلها أن تغسل آثامه ، والسيد لا يستمع لأحد لأنه يرى فيه عالما جليلا وأنا أخشى يوما أن آفاته الأخلاقية سوف تنتقل لصغار القصر ، ومن يدرى لربما بدأو يتعلمون منه فعلا.. لكننا انا والأخوه نريد أن نخبرك بما أنتوينا فعله ) وهنا قبل أن يفصح كاتب الرسالة عن نيته الرسالة ممزقة ولا تحتوى حتى على أمضاء لكن بالطبع فحوى الرسالة ينم عن غضب وحنق على أنجلو ، على أية حال فإن الرسالة تفسر أن بوليزيانو كان معروفا عنه الانحراف الأخلاقى والذى جعل فلورنسا كلها تتغامز عن سبب عدم زواجة ، لكن ماذا حدث لبوليزيانو هذا المعلم الكبير فى عين ميديتشى والمكروه فى الخفاء من رجالات القصر ؟ تقول السجلات أن بوليزيانو مات بشكل مفاجئ فى صبيحة يوم 24 سبتمبر عام 1494 وانه أصابه قبل الوفاة بيومين آلاما مفاجئة فى بطنه ثم صدره ثم فقد الوعى ومات بعدها بساعات قليلة وتقول الوثائق أنه مات بالزهرى على الرغم من أن هذه الأعراض لا تصنف ضمن الأصابة بهذه النوعية من الأمراض والأغرب من ذلك أن الفيلسوف الشهير النبيل بيشو ديللا ميراندولا قد مات بعد بوليزيانو بأقل من شهرين وبنفس الأعراض وقيدت فى السجلات انه مات بنفس المرض وهو أيضا كان سيء السمعه من ناحية أنحرافه .. وظل التاريخ يذكر ان بولزيانو قد مات بالزهرى نتيجة لسوء سلوكة حتى جاء عالم تشريح أيطالى وأنثروبولجى كبير يدعى جورجيو جروبيونى وربط بين موت ميراندولا وبولزيانو وأستخرجت جثتيهما من كتدرائية سان مارك فى فلورنسا عام 2007 وكانت النتيجة كما توقع بعض الذين حققو فى وثائق موت بوليزيانو وميراندولا حيث أكتشف جروبيونى أن بوليزيانو وميراندولا قد ماتا بتأثير السم وهو نفس نوع السم الذى قتل به كلاهما وهو سم الزرنيخ وبدأت التحقيقات الافتراضية عن قتلهما منذ عشر سنوات وحتى الآن . البعض يعتقد أن بوليزيانو وميراندولا قد أثارا حفيظة رجال الدين فى القصر بسوء سلوكهما ومن ثم حيكت ضدهم مؤامرة وتم دس السم لهما فى فترتين متباعدتين ، والبعض الآخر يعتقد أن الصراع الدائر فى فلورنسا فى هذه الفترة بين حزب البابا وحزب الجلف واللذين تصارعا أكثر من مائة عام على بسط سلطتهما على فلورنسا كان نتاج هذا الصراع هو مؤمرات تخلصت من الشخصيات ذات النفوذ الكبير فى قصر ميديتشى مثل بوليزيانو وميراندولا وربما شخصيات أخرى ماتت بنفس الظروف الغامضة. وهكذا تظل قضية قتل بوليزيانو قضية مفتوحة لاتزال لم تسفر عن شيء فنحن نتحدث عن جريمة قتل حدثت من مايقرب من 520 عاما وهو ليس بالزمن القليل.