الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
فيليشتى كازوراتى.. الفن  بين التجديد والعودة للإطار

فيليشتى كازوراتى.. الفن بين التجديد والعودة للإطار

إن الفن كما يصفه الكثير من النقاد هو حالة من التفرد والتميز ربما يكون أحيانا حالة من التطرف وقد نرى فى الفن الجميل أتباعا لكل القواعد، كما نرى فيه أيضا تكسيرا لمعظم القواعد أحيانا وهذا هو الفرق بين النقيضين أى الإفراط فى التنظير والالتزام بالقواعد والتطرف فى تحطيمها والخروج عليها ، وعلى الرغم ن ذلك لا تعتبر الوسطية خلوا من الفن بل أيضا الكثير من حالات الوسطية تعبر عن فنا متزنا يراعى سهولة الوصول للمتلقى ومتاعة قبل كل شيء ، لذا علينا فى الكثير من الأحيان عدم اتباع أهوء النقاد المتشددين والذين تصيبهم حالة من التشنج فى وصف فنان ما ليس على هواهم النقدى ولعلنا هنا نؤثر مقولة الناقد الجميل هبرت رايد الذى يقول ان هناك فى كل عمل فنى متعة ما ولو ضئيلة مهما كانت درجة رداءته، وعلى هذا المنوال علينا افتراض أن كل منتج للعمل فنى – ودعنا نقول هنا منتج – لأنه ليس كل منفذ أو منتج نستطيع أن نصفه بالفنان علينا افتراض أنه حينما أخرج لنا هذا العمل كان يفكر فى فكرة فنية ما يحملها هذا العمل وهذا بالطبع كان يميز معظم ممارسى الفن التشكيلى فى أوربا فى معظم العصور وحتى قبل نهاية القرن العشرين لكن فى عالمنا العربى خلق التنافس المحموم والرغبة فى أن يوصف الفنان بأنه مجدد ومبتدع خلقت هذه الظروف من الفن التشكيلى العربى ملعبا لطرح التفاهات والأستخفاف بعقل المتلقى مع الأعتماد ربما على أسم الفنان أو منصبه، على أية حال فإن الكم الكبير من أنتاج الوطن العربى فى الفن التشكيلى حاليا قد يوصف بأنه مجرد إنتاج للممارسة والاستعراض لا يرقى لمستوى الفن.  وليس مجالنا هنا هو الفن التشكيلى فى المنطقة العربية بالطبع فنحن نرى فى فنانا اليوم الإيطالى فيليتشى كازوراتى حالة خاصة جدا نقيس عليها هذه الفكرة أى فكرة جود الفن فى معظم حالات التطرف فى كسر القواعد أو التزمت فى الألتزتم بها وربما كان هذا التزمت نابعا من التزام، ما جعل من الفنان أداه لترسيخ مفوهم فنى معين وهذا ما كان يعنيه الكثير من جيل كازوراتى أو الجيل الذى سبقة فمثلا الرمزيين الذين تأثر بهم كازوراتى وعلى رأسهم النمساوى جوستاف كليميت وجماعته كانوا قد آلو على نفسهم تقديم مادة جديدة للفن تأخذ الترميز وسيلة لتقديم مضامين فنية مهمة، ومع ذلك لم يخرج كليميت وجماعته عن الإطار التقليدى للفن إلا بقدما ما يثبت وجهة نظرهم، ويعطيهم حرية أكبر فى التعبير عن مشاعرهم دون تصنع وهذا ما أعتقدوا انه يناسب المتلقى بشكل أو بآخر، ومن ثم وجدنا اتساقا كبيرا فى أعمالهم وأطارا فنيا راقيا مع وجود هذه النزعة الحداثية على ما هو قديم فى وقتهم، وهذا ما أراد أن يكونه فيليتشى كازوراتى الذى أعتبر أن مجاراة العديد من الموجات – أو قل التقاليع – الفنية فى هذه الفترة مجرد نوع من العبث المقصود للتعبير عن نزعات هوسية لذا كان كازوراتى من بدايته واضحا حين نحا لما يعرف بـ –العودة للإطار– وهذا اصطلاح فنى شديد الأهمية يتجاهلة العديد من النقاد لأن معظمهم يدور حول الأسماء الرنانه أو الأسهل فى التنظير ويبتعدون عن مبدعين لهم ثقلهم مثل كازوراتى، إذن كان كازوراتى ضمن فكرة العودة للأطار والتى كانت قلبا وقالبا ضد الطليعية التى تفجرت بعد الحربة العالمية الأولى ولعلنا نؤيد الرأى القائل بأن صدمة الحرب العالمية الأولى وهذا الكم من الدماء الوحشية الذى صاحبها كان خليقا بأن يؤجج هذه الحركات الفنية التى أخذت من الامبالاة وتحطيم الأطار مذهبا ومنهجا ويحضرنا هنا مقولة كازرواتى نفسه حينما قال عن الطليعية (لا أعرف ما الفكرة الجمالية التى سوف يحصل عليها المتلقى من مجرد وعاء للبول تم تلوينه وأطلق علية عمل طليعى؟ هذا يعنى أن كل الأشياء القبيحة وذات المدلول المقزز فى العقل قد تصبح يوما ما فنا ؟ أى فساد تقتلون به قدسية وجمالية الفن داخل عقل المتلقى!!) والحقيقة إننا قلبا وقالبا مع كلام كازوراتى فهذه الأفكار الطليعية التى أخذت مسميات كثيرة ولبست أردية زائفة كثيرة فيما بعد هى التى أخرجت لنا مدعين للفن مارسوا علينا سادية قتلت بعضا من قدسية الفن داخلنا فلا عجب أن نجد فى وقتنا هذا أحدهم يستخدم براز الحيوانات فى أعمالة الفنية تحت شعار الحداثة. أذن هذا هو فليتشى كازوراتى كان شديد الوضوح من البداية ومن ثم أعلن عن اعتناقه للتطوير المتزن للفن داخل إطار يحفظ للفن ماهيته وقدسيته ولا يفتات على ذوق المتلقى ويفسدة وهكذا نستطيع أن نصف أعمال كازوراتى بأنها أحيانا أكاديمية والحقيقة أنه لا عيب فى ذلك مطلقا فربما كان هذه هى أحدى مواطن قوة كازوراتى وعلى الرغم من ان كازوراتى لم يقوم بدراسة منظمه للفن بل كانت دراسته للفن مقتضبة بعد دراسته للقانون ، فإذا نظرنا لأهم أعمال كازوراتى وهى بورترية سيلفانا كانى الشهير ولعلنى أحب أن أقول إنه أشهر أعماله لكن ليس أقواها على الإطلاق كما يصفها بعض النقاد، أذا نظرنا لهذا العمل وجدناه يدور فى عدة أطر تلخص لنا مذهب كازوراتى وذوقه فى الفن فنجد أولا فكرة الهندسية ظاهرة ومدمجة فى معظم أجزاء العمل فالجسد الذى يمثل مركز اللوحة يبدو لنا قد تم تنفيذة بشكل هندسى نوعا ما مقاييسة بين مقاييس الرمزية والواقعية مع وجود تضليع ظاهر فى طرح فكرة الجسد فى العمل وهذا هو إحدي سمات الفكرة الهندسية فى الفن التشكيلى أيضا مركزية الجسد فى اللوحة تذكرنا بمركزية جسد الشخصيات المقدسة فى لوحات الرينيسانس والتى درسها كازوراتى بأستفاضة وتأثر بفنانيها خصوصا بيرو ديلا فرانشيسكا والذى نجد حضورة أحيانا طاغيا فى أعمال كازوراتى واكبر دليل على هذا التأثر هو أن كازوراتى كان مفتونا بأستخدام التيراكوتا – الطين المحروق – فى أعمالة النحتية مثلة مثل ديلا فرانشيسكا كذلك نلاحظ أن أعمالة بهذه الخاصية الهندسية تبدوا وكأن الموديل فيها هو تمثال من التيراكوتا، نجد أيضا فى خلفية لوحة بورترية سيلفيا كانى تلك النافذة المفتوحة على مشهد خارجى لمبنى مقبى والذى يشبه كثيرا الخلفيات المعمارية للوحات الرينيسانس ويمكننا أن نكتشف ذلك بسهولة إذا قارنا هذا المبنى فى الخلفية بنفس الخلفية المعمارية للوحة سبوزالازيو- الخطبة – للإيطالى رافييل سانزيو، نستشف أيضا من وضعة اليدين والعين المغمضة ومقاييس الوجه هذا التأثر بجوساتف كليميت مع الوضع فى الأعتبار أن هناك بعض التأثيرية التى تجاهلها النقاد فى معظم أعمال فيليتشى كازوراتى. تحيلنا بعض الرؤى فى بورترية سيلفيا كانى الشهير إلى تقنيات كازوراتى الأساسية وعلى رأسها الهندسية كما ذكرنا ثم يليها تقنية الخامة نفسها وهى عند كازوراتى غريبة نوعا ما وخصوصا على فنان يعايش أوائل القرن العشرين وهى تقنية الرسم بالتمبرا أى الرسم بالألوان العضوية اللامعة والتى يستخدم فيها صفار البيض أحيانا ليعطى لمعة وبريق للون وهذه التقنية قديمة أستخدمت فى الأيقونات القبطية وبورتريهات الفيوم الشهيرة التى تعود لما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الثالث الميلادى، ولكن الجديد فى تنفيذ أعمالة بالتمبرا هى انه أبتدع ما يعرف بالتمبرا المطفأه فيه أقل لمعانا والألوان فيها مطفأه وباردة ويحسب هذا لكازوراتى لأنه ساير بها الوقاعة اللونية لعصره. كان فيليتشى كازوراتى مغرما بوضعة البورترية التقليدى للمرأة التى شكلت موضوعا رئيسيا لمعظم أعمالة فوضعتها هى ببساطة وضعة الموديل الذى يأخذ وضعة المستعد للتصوير وأيضا حركة اليدين داخل البورترية نجدها دافنشية جدا فى معظم أعمالة – أى اليد موضوعه على اليد الأخرى أو معصم اليد الأخرى – وهناك مقولة طريفة كانوا يتناقلوها أساتذة الفن فى تورينو عن كازوراتى وهى أنك تستطيع ان تلملم أشلاء الجوكاندا من بورتريهات كازوراتى. ولد فيليلتشى كازوراتى فى ديسمبر 1883 فى نوفارا وكان يميل لتعلم الموسيقى وهو صغير ثم أستهواه الرسم فيما بعد ونزولا على رغبة والدته درس القانون فى جامعة بادوا وبدأ من العام 1906 يمارس الفن بشكل شبه أحترافى حتى أنه شارك فى بينالى فينسيا بأحد اعمالة وفى هذه الفترة وحتى أندلاع الحرب العالمية الأولى كان متأثرة بالرمزية وكان يكن الكثير من الإعجاب لجوستاف كليميت ونلحظ هذا التأثر فى أعماله فى هذه الفترة، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وأشتراكه فيها قل نشاطة الفنى لكنه بعد عام 1917 عاود نشاطه بقوة سائرا فى طريقة الفنى من خلال فكرة العودة للإطار ورافضا مذاهب الطليعية الفنية فى هذا الفترة حيث رأى فيها بداة تفكيك القيم الفنية وأفساد الذوق وطرح معايير لامنطقية للفن. ظل كازوراتى بعد الحرب فى فترة انعدام وزن هية الفترة التى قضاها فى تورينو حيث أهتم كثيرا بتقديم معادلات لمقاييس الجسد فى أعمالة فانصب اهتمامه على العرى بشكل ما، ومع صعود نجم الفاشية ومثله مثل كل الفنانين فى هذه الفترة ناضل ضد الفاشية وقبض عليه وقضى فترة رهن الاعتقال ثم بعد الإفراج عنه قرر عدم تكرار تجربة معارضة السلطة مرة أخرى ووجه كل طاقاته لفنه فافتتح مدرسة فى تورينو لتعليم النشأ من هواة الفن وتعليم المهاجرين الذين استوطنوا تورينو وكان له تأثير كبير فى تلاميذه الذى كان من بينهم فنانين كبار مثل أنريكو أتشاتينو والفنان كوينتو مارتينى الذى كان أحد أقطاب جماعة الستة الفنية الشهيرة – جروبو دى سى – كذلك الفنانة البريطانية الشهيرة دافنى مابل التى أصبحت زوجته فيما بعد. حاز فيليتشى كازوراتى شهرة واسعة وفاز بجوائز عالمية ومحلية عديدة من بينها الجائزة فى الأولى فى بينالى فينسيا وتعتبر أعماله من أكثر الأعمال الجاذبة للاقتناء فى متاحف أوربا وأصحاب المجموعات الخاصة، توفى كازوراتى فى مارس 1963.