الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«حمار كبير»

«حمار كبير»

حتى الظلم له وجهان مختلفان.. وجه ظاهر ووجه باطن.. ففى الظاهر هو رضا بالمكتوب بزعم أنه ابتلاء.. وفى الباطن هو خوف وجبن غير مبرر.. استسلام وضغف ومذلة.



«زكى طليمات» واحد من المظلومين الكبار فى تاريخنا.. مثقف ومبدع.. صحفى ومترجم.. مخرج وممثل..هوالرائد الحقيقى للمسرح المصرى.. وصانع نجوم كبار.. لكن أحب لقب لنفسه كان «الحمار الكبير»وهذا اللقب له حكاية مهمة.

«زكى طليمات» حياته الظاهرة تختلف تماما عن حياته فى الباطن .. الرجل الذى تزوج السيدة روزاليوسف بعد أن قالت له فى أول لقاء تعرف تقشر بطاطس فغضب وسألها وماعلاقة التمثيل بالبطاطس فردت .. لما تعرف الفرق هتبقى ممثل كويس ... لم يكن يعرف السكوت على الظلم  الذى هو أكثر مرارة  من الظلم نفسه.

مقاومة الظلم والوقوف فى وجه الظالمين، ممكن هو كمان  يكون له ظاهر وباطن.. فعملاق المسرح المصرى الراحل الكبير الفنان زكى طليمات.. فى الظاهر لا نتذكر له إلا دور الشرير «آرثر» وجملة شهيرة قالها لليلى فوزى فى فيلم الناصر صلاح الدين ..جميلة الجميلات فيرجينيا :» فى ليلة أقل جمالاً من ليلتنا هذه ستأتين راكعة إلى خيمتى»

لكن فى الباطن زكى طليمات مناضل من نوع عنيد ،القصر الملكى أغلق له معهد الفنون المسرحية الذى أنشأه بعد العودة من دراسة الفن فى فرنسا فلم يسكت.

القرار الظالم نفسه  بإغلاق المعهد حمل فى الظاهر عنوانا مغريا من النوع الذى يعجب القطيع الذى لا يفكر .. «الحفاظ على الأخلاق» كان هذا هو السبب المعلن بعد أن قام الشيخ محمود أبو العيون وكان نجماً أزهرياً فى ثورة 1919ويحترمه ويسير خلفه الكثيرون بمهاجمة المعهد ومؤسسه زكى طليمات واصفا ما يتم تدريسه فيه بالخلاعة والرقاعة وبالفعل تم إغلاق المعهد بعد تسعة أشهر فقط من افتتاحه وتحديدا فى  صيف العام  1931.. بسبب مخالفته للعادات والتقاليد! وفى الباطن كان قرار الإغلاق  قد تم بضغوط  من الاحتلال البريطانى وحاشية الملك فؤاد التى حذرته من خطورة المسرح على العرش الملكى، وحذرته من نهضة فنية حقيقية ومسرحيات تتناول الفساد وتهاجم الملك والحاشية والإنجليز  وتحض الناس على التفكير والمطالبة بالحريات .  فى الظاهر «زكى طليمات « استسلم للأمر الواقع خاصة بعد أن  جاء له الفنان التشكيلى الكبير سيف وانلى وقال  له: «استمر فى غضبك وخليك زى الحمار، اصبر واحرن ولا تهتم بالزمن».. ذهب للعمل فى حديقة الحيوان وكان يجلس بالساعات لمراقبة القرود والنسانيس .. وبعد فترة قال إنه تعلم احتراف التمثيل من القرود والنسانيس وتعلم منها أيضا الحيلة والتفكير المنطقى.  وفى الباطن لم يستسلم وتعامل بنفس الطريقة التى أغلقوا بها المعهد..  فى الظاهر أنشأ «جمعية الحمير» للدفاع عن الحمير التى تتم معاملتها معاملة سيئة رغم أنها الأكثر قدرة على التحمل والعمل والفهم وفى الوقت نفسه هى  الأكثر تعرضا للظلم .

وضم لها مثقفين ومشاهير الفن والأدب، ومن بينهم فكرى باشا أباظة، وشكرى راغب مدير الأوبرا المصرية وقتها، والدكتور طه حسين والأديب عباس العقاد، وسيف وانلى، وزينب صدقى وفيما بعد انضم لها المخرج السيد بدير والساخر الكبير أحمد رجب ونادية لطفى .

وفى الباطن الجمعية كانت مهمتها الأولى عدم السكوت وعدم الصبر على البلاء الملكى والاحتلال الإنجليزى.. وبدأت النضال والتخطيط للرد على تعنت سلطات الاحتلال بطريقة مصرية خالصة ، وخلال أسابيع  كان هناك 3 آلاف حمار مصرى يقودهم زكى طليمات الذى حصل على لقب «الحمار الأكبر» مناصفة مع شكرى راغب، وهذا هو اللقب الأعظم بين عدد من الألقاب الأخرى التى تعطى رتبا ودرجات لأعضائها حسب فترة عضويتهم، وتتدرج هذه الرتب من <>الجحش>> الى <>الحمار الصغير>> ثم <>الحمار الكبير>>، و رتبة الحمار نفسها  تتضمن رتبا داخلها مثل <>حمار لجام>> و <>حمار ببردعة>>، وهو الفرش الذى يوضع على ظهر الحمار قبل ركوبه، ثم <>حمار حدوة>>، ثم <>حمار كبير>>،وكان  رؤساء الجمعية فى المدن المصرية،وخارج مصر يطلق عليهم لقب <>كبيرالحمير>>، وتصل الرتب إلى «حامل البردعة» لمن يصبر أكثر من 20 عاماً يكون فيها عضوا فاعلا فى الجمعية .

 وكان العشرات يكافحون للحصول على رضا «الحمار الكبير»  زكى طليمات والذى حول الفكرة كلها وطلب من الجميع أن تكون الجمعية شعبية وليست نخبوية بمعنى أن تقدم خدمات وتقترب من الجماهير لتقديم خدمات حقيقية .

فى الظاهر تشكلت مجموعات لمحو الأمية وتشجير الشوارع وتنظيم الرحلات الداخلية للشباب وتوسعت الأنشطة فوصلت إلى جمع التبرعات للمرضى وشراء أجهزة طبية للمستشفيات.

وفى الباطن تعمل الجمعية على توعية الجماهير بأهمية الفن والثقافة وتبث فيهم الروح الوطنية وتعطيهم دروسا فى الحفاظ على الهوية المصرية .. وبعد كفاح طويل أعيد افتتاح المعهد عام1944 ليكون نواة حقيقية لأكاديمية الفنون.

ألم أقل لكم  من البداية ،أن لقب «حمار كبير « كان له حكاية مع العملاق زكى طليمات والذى لم يسكت على الظلم والفساد ولم يستسلم.. لأنه يعلم أن الصبر على الظلم أكثر مرارا من الظلم نفسه.