فى الذكرى الخامسة لرحيل الخال عبدالرحمن الأبنودى
قراءة جديدة فى ديوان جوابات حراجى القط

خالد بيومى
فى الذكرى الخامسة لرحيل الخال الشاعر عبد الرحمن الأبنودى (11 أبريل 1938 – 21 أبريل 2015) نقدم ملحمة بناء السد العالى التى تتماشى مع أزمة مياه النيل وسد النهضة.. فالسدّ العالى هو سد مائى على نهر النيل فى جنوب مصر، أنشئ فى عهد جمال عبدالناصر وقد ساعد السوفييت فى بنائه. وقد ساعد السد كثيراً فى التحكم على تدفق المياه والتخفيف من آثار فيضان النيل. يستخدم لتوليد الكهرباء فى مصر. طول السد 3600 متر، عرض القاعدة 980 مترًا، عرض القمة 40 مترًا، والارتفاع 111 مترًا. حجم جسم السد 43 مليون متر مكعب من إسمنت وحديد ومواد أخرى، ويمكن أن يمر خلال السد تدفق مائى يصل إلى 11,000 متر مكعب من الماء فى الثانية الواحدة.
بدأ بناء السد فى عام 1960 وقد قدرت التكلفة الإجمالية بمليار دولار شطب ثلثها من قبل الاتحاد السوفييتي. عمل فى بناء السد 400 خبير سوفييتى وأكمل بناؤه فى 1968. ثبّت آخر 12 مولدًا كهربائيًا فى 1970 وافتتح السد رسمياً فى عام 1971.
ولكن أدى السد العالى إلى تقليل خصوبة نهر النيل وعدم تعويض المصبات فى دمياط ورأس البر بالطمى مما يهدد بغرق الدلتا بعد نحو أكثر من مائة عام وبسبب بعض العوامل الأخرى مثل الاحتباس الحرارى وذوبان الجليد بالقطبين الشمالى والجنوبى بتأثير سلبى من طبقة الأوزون. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أول من أشار ببناء هذا السد هو العالم العربى المسلم الحسن بن الحسن بن الهيثم -(ولد عام 965م وتوفى عام 1029م). والذى لم تتح له الفرصة لتنفيذ فكرته وذلك بسبب عدم توفر الآلات اللازمة لبنائه فى عهده.
فى العام 1955 تقدم باحث يونانى اسمه دانينوس بمشروع لتدشين السد العالي، اقتنع به مجلس قيادة الثورة، وحظيت فكرة دانينيوس، باهتمام كبير من القيادة كما تولى دراسة المشروع البنك الدولى للإنشاء والتعمير، وأخذ عبدالناصر يبحث عن مصادر لتمويله، وبدأ بعرضه على البنك الدولى للإنشاء والتعمير الذى أكد سلامة المشروع وبدأ الاتحاد السوفييتى يدخل كطرف ثالث وفى سبتمبر عام ١٩٥٥تحركت بريطانيا لتحذير واشنطن من التهديد السوفييتى وأعلنت الخارجية الأمريكية فى ١٦ ديسمبر ١٩٥٥ أن كلاً من البنك الدولى وأمريكا وبريطانيا سيمول المشروع غيرأن الشروط جاءت تعجيزية ومجحفة وأثارت غضب عبدالناصر ورفضها ثم قال الأمريكيون بوضوح: نأسف لأننا لن نساعدكم فى بناء السد العالى وقد قررنا سحب عرضنا فكان قرار التأميم. وفى عام ١٩٥٩ صدر قرار بإنشاء اللجنة العليا للسد العالى برئاسة المشير عبدالحكيم عامر وتم الترويج إعلامياً للمشروع واستدعاء الخبراء الأجانب وتجميع الدراسات والأبحاث للاستفادة منها كما قام المشير عبدالحكيم عامر بزيارت إلى الاتحاد السوفييتى لتوقيع عقد تمويل السد العالى وحضر خبراء روس منهم خبير اسمه «ماليشيف» وهو الذى بنى سداً كبيرًا على نهر الفولجا يشبه (السد العالى).
قام الرئيس جمال عبد الناصر بإطلاق إشارة بدء تشغيل السد العالى بحضور الرئيس العراقى عبد السلام عارف والرئيس السوفييتى خروتشوف .فى هذه اللحظة ضغط عبد الناصر الزر الذى فجر 20 ألف طن من الصخور كدفعة أولى كى يبدأ بناء ما وصفته المؤسسات والهيئات العلمية الدولية بأكبر مشروع هندسى فى القرن العشرين ..سد يساوى حجمه 17 مرة حجم الهرم الأكبر الذى بناه المصريون بالسخرة للفرعون ليكون ضريحًا ونقطة وثوب الى العالم الآخر بينما السد بناه المصريون بإرادتهم الحرة وبعد معركة مع العالم ليكون بعثا للحياة فى وداى النيل.
كان بناء السد العالى ملحمة ومدرسة شارك فيها 35 ألف مهندس وعامل لمدة 10 سنوات كاملة، وأصبح رمزاً لإرادة الأمة العربية والعالم الثالث فى قهر التخلف، وهو أيضا معركة لم تنته بعد بمحاولات غربية وصهيونية دؤوبة لتجريد مصر من مزاياه بالتآمر لبناء سدود على النيل فى إثيوبيا. فى تقرير صدر عن الهيئة الدولية للسدود والشركات الكبرى قيم السد العالى فى الصدارة فى كافة المشروعات. وقال إنه تجاوز ما عداه فى المشروعات الهندسية المعمارية واختارته الهيئة الدولية كأعظم مشروع هندسى شيد فى القرن العشرين. متفوقاً على كافة المشروعات العملاقة الأخرى مثل مطار «شك لاب كوك» فى هونغ كونغ ونفق المانش الذى يربط بين بريطانيا وفرنسا.أكد التقرير الدولى أن السد العالى تفوق على 122 مشروعًا عملاقاً فى العالم. لما حققه من فوائد عادت على الجنس البشرى, حيث وفر لمصر رصيدها الاستراتيجى فى المياه بعد أن كانت مياه النيل من أشهر الفيضانات تذهب سدىً فى البحر المتوسط عدا خمسة مليارات متر مكعب يتم احتجازها..
وأصبح السد العالى هو حديث مصر كلها، وأملها الباقى بعد نكسة يوينو 1967 فى إعادة الأحلام الى قضت عليها 5 يونيو، وكان الشاعر عبد الرحمن الأبنودى يرى أن هذا المشروع يمكن أن يغير وجه مصر إلى الأفضل، فقرر زيارة السد والكتابة عنه, فذهب الأبنودى بصحبة صديقيه: سيد خميس وسيد حجاب لزيارة وزارة السد العالى، ولكن عندما طلبوا من الموظف الذهاب إلى السد العالى ليكتبوا عنه، قال لهم: لا تتفاءلوا كثيراً،احنا مش فى الاتحاد السوفييتى الذى يرسل الشعراء والكٌتَّاب إلى المشاريع القومية، وأنصحكم بألا تحاولوا مرة أخرى، فلن تذهبوا.
وبالفعل تم رفض الزيارة،وعاد الثلاثة وقد خاب مسعاهم.
لكن الأبنودى لم ييأس،وقرر أن يذهب بنفسه وعلى نفقته الشخصية كأى مواطن بسيط وحجز تذكرة قطار إلى أسوان التى وصلها بعد يومين، وبمجرد أن وصل إلى أسوان سأل عن الطريقة التى يذهب بها العمال إلى السد العالي, واستعان بأكثر من ثلاث وسائل مواصلات وصل إلى موقع بناء السد، وسأل عن المكان الذى يقيم فيه العمال القادمون من قرية أبنود«مسقط رأسه» للمشاركة فى بناء السد فدلوه على المكان، ويروى الأبنودى ما رآه هناك بقوله:» عندما وصلت إلى مكان عمال أبنود وجدت العيال اللى كانوا معاى فى القرية، وقد كبروا ويعملون فى السد، فى مكان لم يطرق من أيام الفراعنة، وقعدت معاهم فى السد نحو سبع عشر يوماً، وكان أكلنا اليومي( المش) وجبتلهم لحمة مرتين،وكان بيكون معاهم بصل وثوم وملوخية ناشفة وطماطم وحلل،ولم يكن طبعاً فيه (استحمام) فكانوا يملأون صحيفة مياه من النهر ويغتسلون بها، وينتظرون ملابسهم حتى تجف، ولكن العمل قد غيَّرهم وأثر على لهجتهم».
ويستطرد الأبنودى فيقول:» بعد تجربة إقامتى فى السد العالي،تذكرت(حراجى البسّ) صديقى فى الطفولة الذى كان معى فى أبنود، وقلت لنفسى لو «حراجي» كان هنا مكان أى واحد من الرجالة دي،هل كان هيتغير؟فقلت أجرب أنقله إلى هذا المكان حتى لو على الورق خصوصاً أن حراجى لم ير السد العالى، ولم يذهب إليه أبداً».
ويفسر الأبنودى سر اختياره لـ«حراجي» ليكون بطلاً لديوانه فيقول:»(حراجي) نسبة إلى الأرض الَحَرجة) وهى الأرض الشراقى الخصبة، وقد كان عريضاً وضخم الجسم، وكنا نلعب معاً، ولكن لعبه كان عنيفًا بسبب جسمه، وكان من يأخذ خبطة من حراجى تعلم فى جسمه ثلاثة أشهر، ولكن حراجى كان عنده( شوية هبل) لذلك أردت أن أرسم من خلال شخصيته سذاجته الجميلة التى تصورت شكلها بعد أن تأثرت بالماكينات الحديثة» يقول الأبنودى فى جزء من ( جوابات حراجى القط):
فى كل مكان يا فاطنة/الناس هيه الناس/ وكإن جميع الخلق رابطها مقاس/مقاس واحد/ والفاس/ اللى بتمسكها يد فى قليوب/نفس اليد بتمسكها فى دشنا وشرنوب/ زى ما كل بلد فيها الزين والشين/المستنور.. وأبودماغ الطوب../ كل بلد تانية فيها نفس الحسبة/المعدول جنب المقلوب/ زوجك/ لوسطى حراجي.
وقد رسم الأبنودى صورة بديعة لزوجة حراجى فاطنة أحمد عبدالغفار وقال عنها الأبنودى :إنها لا تشبه أمى لكنها صورة من فاطمة أختي،التى اكتسبت من طباع والدته فاطمة قنديل وست أبوها،فأخذتها نموذجاً لزوجة حراجي،التى تمتلك هذه الطاقة الهائلة من الحب والحنان،فأختى حين تعرض زوجها محنة كبيرة وغاب عنها لمدة ثلاث سنوات،كانت لها مقولات مثل:» شامَّة ريحة هدومه ومش بأقدر أنام « فهذا الانتماء الشديد لزوجها وحنانها المدهش ورقتها الجميلة هو ما دفعنى لاستحضار صورتها وأنا أكتب عن زوجة حراجي،خصوصاً أن أختى فاطمة تسكن وجدانى ولا يمر يوم واحد دون أن أتحدث معها،وأطمئن على أحوالها».
فيقول الأبنودى على لسانها:
أسوان
زوجى الغالى / لوسطى حراجى القط/ العامل فى السد العالي/ زوجى الغالي/ يا تطمينة القلب الخايف.. / يا كلمة بدفى بيها عودى وعيالي../ وصلنى جوابك لقلقني/ وقلق بالي/ من يوم ما مشيت / ما خفت عليك إلا النوبة/ من يوم ما مشيت ما حسيت بيك وحداني/إلا النوبة/وكأنك شجرة حنة.. قليلة../ بتطوحها الخماسين/ على جبل النوبة/ارجع يا حراجي/ ارجع والمرة دي/ لا بقولها خوف ولا شوق/ ارجع /اتدفى فى بيتك وعيالك.
وجاءت لغة زوجة حراجى ناعمة وصادقة ومؤثرة ومعبرةعن نساء عانين كثيرا من غياب أزواجهن، فتقول فاطمة:
يعنى بعد ما تخرب يابوعيد/ حيقولوا حراجى كان شغال ومفيد/ادولوا وظيفة بيه/ إياها السبعة جنيه!