الخميس 26 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البالطو الأبيض.. وتأثيرالأغنية فى الوجدان الشعبى

البالطو الأبيض.. وتأثيرالأغنية فى الوجدان الشعبى

اعتاد الشعب المصرى والعربى فى كل العصور؛ أن يلجأ بوجدانه التلقائى إلى ترجمة انفعالاته ومشاعره فى الأحداث التى تمر به من تقلبات الحياة اليومية الاجتماعية والسياسية فى صورٍ عدة، إما بالسخرية الحادة عن طريق «النكتة»، أو بالعزف على أوتار أفراحه وأحزانه عن طريق «الأغنية» بسيطة التراكيب اللفظية؛ أو فى «مواويل الناي» فى الموالد والمناسبات الدينية والاجتماعية؛ ولكن كان أبرزها تلك الأغانى التى جرت على ألسنة عامة الشعب طوال عهود السيطرة والاحتلال الأجنبي، ومنذ تجرأ الزعيم «أحمد عرابي» وأقدم على إعلان التمرد على سلطة «الخديوي» التابع للدولة العثمانية! 



ولست بصدد الحديث عن نجاح أو فشل «ثورة عرابي» أو «هوجة عرابي» كما أسماها البعض بإيعاز من سلطة الاحتلال للتقليل من شأنها، ولكن مايهمنى هو مواكبة «الأدباتي/عبد الله النديم» لإحداث تلك المرحلة المهمة فى تاريخ المصريين، والذى استطاع بأزجاله وأشعاره البسيطة فى شكل إيقاعات غنائية يرددها الشعب؛ فى تعبئة وشحن المشاعر ضد سلطة الاحتلال ـ  ومنها على سبيل المثال  : 

أهل البنــــوكا والأطيـان ** صاروا على الأعيان أعيان

وابن البلـد ماشى عريان ** ما معــــاه ولا حق الدخــان

وربما كانت تلك الإيقاعات البسيطة تمهيدًا لتوالى الفوران الشعبى  ليظهرعلى الساحة الشيخ  «سيد درويش » بموسيقاه وأغانيه الوطنية التى مهدت لثورة 1919 بزعامة «سعد زغلول» رفيق رحلة حياة «الأدباتي» والتى دفع  ثمنها بالسجن والنفى إلى أن مات غريبًا فى اسطنبول!  وتأتى الثورة المصرية المجيدة  ( ثورة يوليو 1952 )؛ ليناصرها ويعضدها جيل من عظماء فن الأغنية؛ الذين استطاعوا أن يتركوا الأثر الجميل فى الوجدان الشعبى بكل الذائقة الجمالية  فى ترجمة الأحداث؛ بداية من «( ع ) الدوَّار للمطرب محمد قنديل ـ كنموذج ـ  مرورًا بظهور عبد الحليم حافظ الذى يُعد مطرب الثورة إلى آخر انفاسه.  ولم يكن يتسنى لهؤلاء تلك النجاحات؛ إلا بمواكبة جيل رائع من الشعراء وكتاب الأغاني، بداية من حسين الكومى  وفتحى قورة وفؤاد حداد وصلاح جاهين وسيد حجاب والأبنودي... إلخ !! وكان محورهم الرئيسي فى تلك المرحلة هو الأغانى الوطنية التى تواكب الأحداث السياسية على الصعيدين المصرى والعربى.

ولكننا نرى هذه الأيام.. وعلى إثراجتياح «فيروس كورونا» لكل بلاد العالم: شرقه وغربه؛ أن الشعب المصرى لم يترك هذه الأزمة كى تمر مرور رياح الصيف العابرة؛ ولكنه بفطرته قرر أن يقف للتسجيل والتأريخ، لنرى «طفل الصعيد الجوَّاني» يدق بالإيقاع الفطرى الساذج على «صفيحة قديمة» مندِّدًا بهذا الوباء الذى حرمه اللعب على الترعة مع أقرانه؛ لتلتقطه عدسات التليفزيون ليصبح نجمًا يغار منه المطربون على الساحة الغنائية؛ فيهرعون للمشاركة فى كرنفال «هوجة الكورونا»؛ وليظهر ـ  بعد غياب طويل ـ المطرب الفنان/مدحت صالح، ولكنه هذه المرة لايؤرخ لحدث سياسى أو عاطفي، ولكنه يغنى  ـ بصدق ـ لتمجيد كتائب الأطباء وجيوش التمريض؛ الذين  يواجهون خطر العدوى فى خط الدفاع الأول عن  صحة الشعب المصري؛ بل يقدمون العديد من الشهداء على مذبح «الوفاء بقسَمْ أبقراط » إيمانًا برسالتهم السامية فى خدمة الوطن والبشرية؛ فيتغنى بكلمات (عمر طاهر ): البالطو الأبيض كإشارة إلى الأطباء وكتائب التمريض:

ياابو بالطو ابيض.. والقلب أبيض 

أحلى مافيك  الابتسامة

 ياغالى عندى.. أهل  البلد دى 

ح يطولوا بيك بر السلامة 

ياابو بالطو أبيض والقلب أبيض  

عودك صلبتُه.. صاحى تملى 

ولا انسحاب ولا تخلى 

رجعنا خطوة وسبقت إنت 

صلِّينا وانت بينا المُصلِّي

 تعبك على راسى وعلى عيني

 يانجم عالى ياقصر عينى 

ولا  ملى خوف.. قادر تشوف

ياابو بالطو أبيض !

ونحن بدورنا لابد أن نضم أصواتنا إلى صوت هؤلاء الفنانين الوطنيين؛ الذين يؤرخون للأحداث الجسام التى تمر بالوطن؛ تيمنَّا بالرعيل الأول من الأدباء والفنانين والشعراء؛ الذين نقف لهم احترامًا وتعظيمًا لدورهم الفاعل فى الحفاظ على الذاكرة الوطنية من الاندثار.

وهانحن نرى ركاب الفنون يسير جنبًا إلى جنب مع الحراك الفاعل والمخلص من الدولة بكل أجهزتها السياسية والعلمية والأكاديمية والطبية؛ لتقديم كل الخدمات لدرء الأخطار عن صحة المصريين.. ومصر المحروسة الغالية. ولعل الإيمان بالله العلى القدير وقدرته على أن يهب «العلم» لأهله من جيش الأطباء؛ للوصول إلى سرعة التغلب على الهجوم الضارى لفيروس كورونا؛ متسلحين بسلاح العلم والتكنولوجيا المتقدمة، ولم تركن الدولة إلى التقاعس أو الإهمال فى مواجهة «وباء الطاعون» والجلوس على قارعة الطرقات  ــ كما فعلت «أيام حكم الماليك» ليرددوا :

 يارب يا متجلى..اهلك العثمانلى !!

تلك كانت تطوافة وجيزة لرصد مدى تأثير فن الأغنية فى الوجدان الشعبي؛ ومدى حرصه وقدرته على تخطّى حواجز مؤسسات الثقافة الرسمية؛ ويكون هو الأسبق بالرصد والتسجيل لكل مجريات الأحداث على أرض الواقع.

حفظ الله مصر متمثلة فى فنانيها وعلمائها وأطبائها، لتشرق علينا شمس العافية ؛ لتضيء نهارات السعادة فى الربيع الذى يُطل برأسه على الأبواب؛ لتنقشع  سحابات «الكورونا» من سماء العلم والعلماء!

أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون