الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
عن القدير «توفيق الدقن»

عن القدير «توفيق الدقن»

عندما تؤمن «الأم» الواعية بموهبة ولدها فى سن مبكرة ـ برغم معارضة الأب ـ  وهو لم يعرف الطريق بعد إلى استكمال دراسته؛ ولا إلى كيف يكسب قوت يومه وقوت عائلته ـ بعد رحيل والده ـ وتبث فيه روح العزيمة والمثابرة على عدم التخلى عن هوايته المبكرة فى فن التمثيل، وتشترط عليه أنه إذا شاء السير فى طريق الفن؛ أن يكون فى موهبة وقامة الفنان محمود المليجي، وتشاء الأقدار أن يرحل الأب عن عالمنا، ليفتح الطريق لصاحب الموهبة المبكرة لينطلق إلى أدوار صغيرة فى الأفلام المصرية؛ وهو لايزال طالبًا فى المعهد العالى للفنون المسرحية؛ ليلتحق بعد التخرج للعمل بالمسرح الحر؛ لينتقل منه إلى المسرح القومى ويصير أحد أعمدته الرئيسة حتى وفاته. 



إنه الفنان القدير «توفيق الدقن»؛ الذى عشق فن التمثيل منذ مراحل تعليمه الأولى، والذى بدأ اقتحام «بلاتوهات» السينما المصرية فى أدوارصغيرة كـ«كومبارس»؛ إلى أن يحصل على دور فى فيلم «ظهور الإسلام» مع الفنان فريد شوقي، ليبدأ صولاته وجولاته فى السينما والمسرح؛ وليصنع لنفسه عبارات صارت حكرًا عليه واشتهر بعبارة مأثورة وهى «آلو ياأمم» ؛ و «على ودْنُـه» و «أحلى من الشرف.. مافيش! »  و«آلو ياهمبكة»؛ فى المسلسل التليفزيونى الشهير «بنت الحتة» مع الفنانة «زهرة العلا» والفنان «صلاح قابيل» ؛ وكان ينعى بها حالة التردى فى بعض جنبات المجتمع ـ على قلتها آنذاك ـ وكأنه كان ينعى ماستصل إليه الأحوال فى مستقبل صناعة الفن.. والفنون !  ولعل الوجدان الشعبى المصري؛ الذى اشتق هذه العبارة وصاغها هذه الصياغة العبقرية من لغته الأصيلة؛ كان يقصد أنه حتى الـ «هَمْ/بكا» ـ من الهمُوم ـ ويحذرنا من التسيب والتواكل الذى يعطل المسيرة الإصلاحية فى كل المجالات، وجاء اليوم الذى ندرك فيه أننا كنا نعيش زمن الفن الجميل بهؤلاء الفنانين الكبار، ولم نستمع جيدًا للنصائح المشرفة من على مستقبل المجتمع ومشكلاته.

وبرغم شهرته التى ذاعت بهذا الاسم «همبكة»؛ إلا أنه كان السبب فى العديد من المشاكل التى واجهها فى مسيرة حياته الفنية، فلقد هوجم من بعض «أصحاب المنابر» بدعوى سعيه إلى انتشار الانفلات والانحلال بهذه الكلمة التى لم تخرج عن إنها من «إفيهات» العمل الفنى كما يطلق عليها الفنانون؛ كنوع من العلامات المميزة للشخصية داخل المسلسل أو الفيلم السينمائى. بل إنه كشف فى حديث له عن مشكلة أخرى تسبب فيها هذا اللقب، فقال: «أنه فى أحد الأيام وكنت أشارك فى دور بمسرحية «الجسر» لأرثر ميلر، فأعجب أدائى الجمهور وصفقوا لى كثيرًا، وفجأة خرج من الجمهور من قال «ياعينى يا همبكة»، ويومها أصابنى الضيق وطلبت غلق الستار، وبكيت وقلت فشلت فشلًا ذريعًا فى إقناع الناس بالدور مادام هناك من قال «ياهمبكة»، وبسبب هذا الموقف أصبت بمرض السكر».!

لاينسى الجمهور هذا الفنان العملاق فى أدواره المسرحية؛ ومن العلامات الفارقة فيها ـ مجرد مثال ـ  دور الابن الأكبر فى «عيلة الدوغري»؛ درة الكاتب المسرحى «نعمان عاشور»؛ والتى حذرنا فيها من مخاوف التمزق الأسرى وصراعات الأشقاء؛  والحرص على التوصية على ضرورة استمرار صمود الشعب المصرى أمام كل التحديات ؛ وبرع فى هذا الدور أمام أساطين المسرح القومى. ناهيك عن ترك البصمة الواضحة فى تجلياته على المسرح فى مسرحيات : بداية ونهاية - سكة السلامة - والمحروسة - الفرافير - عفاريت مصر الجديدة -  - مشهد من الجسر - حسبة برما - الناس اللى تحت - خيال الظل - سليمان الحلبى - بير السلم - انتهى الدرس يا غبى - أنتيجون. 

ولعل الجيل الذى عايش فترات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي؛ يعلم كيف كانت تكتظ المقاهى والأماكن العامة بالجمهور الغفير لمتابعة دوره فى مسلسل «سمارة» أشهر مسلسل إذاعى فى ذاك الوقت؛ علاوة على التألق بالأداء التمثيلى فى «القط الأسود»و«احلام الفتى الطاير»و«بنت الحتة»؛ وهى الأدوار الإذاعية التى استطاع فيها أن يستحوذ على وجدان المستمعين فى مصر والوطن العربى. 

وتستمر نجاحاته على كل المستويات؛ فيفوز بوسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى سنة 1956 من الرئيس عبد الناصر؛ وينول شهادة الجدارة فى عيد الفن 1978 من الرئيس السادات؛ إضافة إلى درع المسرح القومي؛ وجائزة اتحاد الإذاعة والتليفزيون؛ وجائزة كتاب ونقاد السينما وجمعية الفيلم. 

لقد رحل هذا الفنان؛ وترك لنا هذا التراث الكبير من الأعمال الخالدة؛ والتى قد لاتتكرر على مدى سنوات طويلة، ليستأثر بحب القلوب المحبة للجمال والبراعة والإخلاص فى الفن، وليقول للأجيال الصاعدة : إن الفن التزام وثقافة واعية؛ وليس «همبكة» بالمعنى الدارج الذى يفسره بعض من لايجيدون التفسير والتعبير.

تبقى حقيقة لاجدال فيها؛ فى أنه لم يكن «الفتى الأول» أو «الجَان»  بتعطيش الـ ( ج) بتعبير الفنانين؛ ولكنه كان بالقطع «نجم الشباك» الذى يجتذب الجماهير؛ رغمًا عن حجم الدور الذى يلعبه فى هذا العمل؛ إلا أنه يحمل «كاريزما» خاصة تترك الأثر العظيم فى نفوس النظارة؛ ولهذا يعيش هذا الفنان الجميل فى وجدان الشعب، لأن الحقيقة الثابتة التى لن تتغيرعن هؤلاء الذين أثروا حياتنا الفنية « إن المبدعين.. لايرحلون؛ بل يغيرون عناوينهم فقط»! أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون