الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«فالتر بينجامين» الحلقة الأولى فيما بعد الحداثة

«فالتر بينجامين» الحلقة الأولى فيما بعد الحداثة

«إن البدن الحقيقى للنقد هو تلك الحالة القياسية التى يمكن معها معرفة إلى اى مدى قدم هذا الجنس الأدبى أو هذا النوع الفنى نفعا ما للفكر البشرى أو حركة النمو الحضارى أو حتى حركة البهجة ونقل الفكرة فإذا تعذر وجود هذه الحالة القياسية فقد النقد بدنه وأصبح أطراف تلوح دون جدوى «.. هكذا يفتتح المفكر والفيلسوف الأمريكى الكبير ريتشارد رورتى أحد مقالاته عن النقد وبنية الحداثة وهو فى الحقيقة يصلح أن نتخذه مفتتح دخول لحالة الفوضى الجلية التى وصل إليها التنظير فى علم النقد وفلسفة هذا العلم التى تشعبت حتى أصبحت تكتنفها غموض الرؤيا والهدف أيضا على الرغم من أن الهدف من النقد والتنظير فيه بسيط للغاية ويمكن لأى إنسان يملك أفكار مرتبة استخدامه دون أدنى إلتباس أو تشويش وعلى الرغم من ذلك وصلنا لهذه الحالة الضبابية من جدوى هذا العلم والتنظير فيه وربما السبب فى ذلك راجع لعدة محاور أهمها أننا تركنا التنظير النقدى للفن وبدأنا فى التنظير لعلم النقد ذاته أى أننا ببساطة بدأنا التنظير على النظريات وربما يولد الآن الجيل الثالث من الحداثة الذى يلقى إلينا بمرحلة ثالثة من وضع نظريات لنظريات وضعت للنقد وهكذا أصبح الأمر غامضا ومبهما وبتالى أصبح الكثير من القراء غير الأكاديميين يعزفون عن قراءة مثل هذه الترهات من وجهة نظرهم بحسب استطلاع للرأى أجراه معهد الدراسات الفلسفية بجامعة بروكسيل والذى كان منصبا بالأساس على رصد حركة القراءة لمؤلفات نقدية تتبع المدرسة الفرنسية الحديثة والتى من بينها فوكو ودريدا وبعض نقاد الأدب الفرنسى والنقد الفرنسى مثل فالتر بنجامين وكانت النتيجة حقيقة تراجع الإقبال بنسبة 54% وهى نسبة ضخمة إذا ما قورنت بقبل أربعين عاما كما اقر الأكاديميون أنهم مجبرون للتعاطى مع مثل هذه الأعمال لنيل درجات علمية .



إذن هذا الوضع فى أوربا تجاه الإقبال على قراءة علم النقد الحديث أو فروعة فما بالك بعالمنا العربى فإننا نكاد نجزم أنه 10 من أصل 1000 يعرفون فقط أسماء كتاب ومفكرين مثل أرنو أو  هوركهايمر أو أدورنو وأن 1 من أصل هؤلاء ال10 يعرف النذر اليسير عن أمثال هؤلاء وهذا طبعا مع حسن التقدير على أساس أنتشار التعليم الجامعى فى معظم أرجاء الوطن العربى وأنتشار الدوريات الثقافية سواء الورقية أو الألكترونية وعدد لا بأس به من المحللين والمفكرين .

لكن بدون إلقاء حالة من اليأس على مستقبل الفكر النقدى والفلسفى علينا أن نؤكد أيضا أن الحل التى وصلت إليه الأوساط الفكرية الأوربية يناسبنا تماما فمعظم الدوائر الثقافية والأكاديمية وجدت أن إعادة التنقيب فى ثنايا وتراث الفكر الأوربى بداية من النصف الثانى من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كفيل بأن يعيد الشريحة الكبرى من القراء والمثقفين إلى التعاطى مع الفكر التنظيرى المجرد سواء كان فلسفة أو نقد أو كليهما وهذا بالفعل ما نستطيع أن نسير على نهجه فنحن لا ينقصنا فى هذه المرحلة التراث الفكرى الدسم والخلاق بل على العكس فلقد أدت حركة الدفع الثقافى فى النصف الأول من القرن العشرين فى وطننا العربى إلى تكدس تراث فكرى خلاق قد يصل إلى نفس مستوى النتاج الفكرى الأوربى فى هذه الحقبة بل وقد يتعداه بدون مبالغة ففى هذه الفترة كان المفكرين العرب أمثال طه حسين وزكى نجيب محمود ولويس عوض وايهاب حسن وأدوارد سعيد لاحقا جزء لا يتجزء من حركة الجدال العالمية وأكثر من ذلك أن معظم مفكرينا نفذت مدارسهم إلى الغرب وأصبح لهم أتباع وتلاميذ مثل الدكتور إيهاب حسن أستاذ علم النقد الحديث فى جامعة ويسكنسن ملواكى الأمريكية .

إذن فنحن بحاجه للتوقف عن كثرة النقاش التى أصابتنا بالدوار لفترة من الزمن حتى نستعيد ونتدبر هذا التراث الهائل الذى تخلف عن فترة ثمانى عقود فى الفكر العربى الحديث .

ولكى تتضح الفكرة علينا أن نقدم مثالا حيا على تراجع محاولة الابتداع الأوربى والاتجاه بقوة لإعادة تحليل التراث الأوربى الحداثى إذا جاز التعبير هناك عدة جامعات تعمل منذ فترة على إعادة أحياء أفكار كتاب يشار إليهم بالبنان على إنهم من رواد حركة الحداثة وعلى رأسهم المفكر الألمانى الكبير فالتر بنجامين والذى من الممكن أن نطلق علية (الحلقة الأولى فيما بعد الحداثة ) لأن فالتر بنجامين تعدى ما يعرف بالناقد الموجه اى المنصب عملة فى فرع واحد من الفن لكنه تعدى ذلك لكل أنواع الفنون فيظل هو الناقد الوحيد الذى شمل نقده المسرح والرواية والشعر والفوتوغرافيا والعمارة كما يشكل فالتر بنجامين عضوا قويا فى المدرسة الألمانية التى وضعت الهيكل الجديد لعلم النقد والجمال والتى كان على رأسها تيودور أدورنو وهوركهايمر ولعل بنجامين لم يحظى بنفس الشهرة والتقدير الذى حصل عليهم زملاءه أدورنو وهوركهايمر لأنه وبشكل ما ألصق به بعض سمات الفوضوية و الولاء المتأرجح لكل ما هو ماركسى أو حتى راجع للتراث العبرانى ، لكن فى الحقيقة أن بنجامين كان مشاركا فى عملية التنوير مثله مثل زملاءه تماما لكن ظروف حياته لا سيما فى العقد الأخير منها هى التى أدت إلى اللبس وسوء التفاهم نتيجة لدراسته بشكل مجتزأ وغير كلى أيضا مأساة انتحاره كانت كفيلة بوضعه ضمن قائمة كبيرة من المفكرين والفنانين المحبطين والذين فقدوا ثقتهم بعالم تسوده الحروب والصراعات العرقية كل هذا شارك فى تصنيف بنجامين كما قلنا ضمن فئة لا يتبعها بالأساس .

وفى مسايرة لإعادة اكتشاف التراث الفكرى الأوربى فى القرن العشرين كانت جامعة هارفارد قد أصدرت كتاب عن حياة فالتر بنجامين الصعبة  تحت عنوان ( فالتر بنجامين حياة صعبة ) واشترك فى تحريره اثنين من أساطين الأكاديميين فى هارفارد وهما هوارد الياند ومايكل جيننجز وعلى الرغم من أن الكتاب يقترب من البايوجرافى أو السيرة الذاتية إلا أنه يتعرض بشكل عام وشامل لفكر بنجامين والمؤثرات الحياتية التى لعبت دورا كبيرا فى تشكيل شخصيته ومنهجة.

وطرحت مطبوعات جامعة هارفارد الشهر الماضى طبعة جديدة من الكتاب بعد أن حاز على لقب كتاب العام نتيجة لنفاذ طبعته الأولى وكما أنه أثار جدلا كبيرا فى الأوساط الأكاديمية ولاقى استحسان على جميع المستويات.

لكن بالرغم من ذلك لازال تقديم فالتر بنجامين للقاريء العربى بصفته قطب من أقطاب فكر الحداثة فيه شيء من الصعوبة إلا أذا افترضنا جدلا أننا نقصر تقديمه على القارئ المتخصص فقط وهذا بالطبع ليس صحيح لأن بنجامين يمكن أن يقدم للقارئ العادى من أوجه عديدة أهمها أنه كاتب من كتاب الماركسية الجديدة إذا جاز التعبير وأنه ناقد شديد التفرع والتنوع كما ذكرنا قبل ذلك وهكذا يصبح من السهل تقديمه بشكل انتقائى أى بانتخاب بعض مقالاته الصالحة للقراءة والمناقشة فى الأوساط العادية وبعيدا عن الأسلوب الأكاديمى كما يمكن أن يستتبعها شرح بسيط وهوامش يسهل قراءتها وكانت دار النشر ميريت قد أصدرت ترجمة لمجموعة مقالات قدم لها راينيير ريشولتز الذى علق ووضع الهوامش لها لكن الترجمة حقيقة جاءت على شاكلة ترجمة للتغريب وليست للتقريب كما يقول أستاذنا الدكتور محمد عنانى ففيها الكثير من مواطن الأعجام يصعب معها أستبيان المعنى كذلك فعدم وجود مقدمة للمترجم أو هوامش له جعلتنا نظن انه غير متخصص فى مادة الكتاب على أية حال فإن فالتر بنجامين لازال رقما مبهما فى مكتبتنا العربية .