الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لودفيج دويتش عميد مدرسة الاستشراق النمساوية

لودفيج دويتش عميد مدرسة الاستشراق النمساوية

لم يعد هناك شك بأنه كلما أقتربنا من القرن العشرين أصبحت الصورة أكثر وضوحا بالنسبة للأستشراق فى الفن التشكيلى وخصوصا أن الجيل الثالث من المستشرقين أصبح ينظر للأمور من وجهة نظر الفنان والموثق فى نفس الوقت بحيث أدرك أن أى هفوة تؤخذ عليه وخصوصا أن المستشرقين تقريبا تضاعف عددهم فى نهاية القرن الـ 19 وأصبح الاستشراق ليس حركة فنية كما كان ذى قبل لكنه تحول لمدرسة ومنهج وطريقة مستقلة بذاتها فى الفن التشكيلى والأسباب فى ذلك كثيرة وأهمها وجود أساتذة كبار حملوا على عاتقهم تغذية الدارسين بالتقنيات والرؤى الصحيحة فى المشهد الأستشراقي.



يعتبر فنانا اليوم النمساوى لودفيج دويتش من رواد جيل المستشرقين المعتدلين ونجم المدرسة النمساوية والذى ينطبق علية مقولة الناقدة جان أجثا روسيه (مستشرق من نوع منسقى المعاجم والكتب)، وهذا الوصف حقيقى بشكل كبير إذا أخذنا فى الاعتبار كم الجدية والدقة التى عالج بها لودفيج دويتش موضوعاته وحتى أصبح اللاحقون يعتمدون هذه الدقة كأكثر ما يكون الإتقان فى التصوير وتقديم التفاصيل والسبب فى ذلك أن لودفيج بدأ حياته الفنية بعد رحيله لباريس كرسام للدوريات المتخصصة والعلمية والتاريخية وهذا بالتحديد ما دفعه ليعمق تجربته أكثر نحو الاسشتراق ليصبح أحد أقطابه وعظمائه، ومن ثم أعطته بدايته كرسام تقنى للمجلات والدوريات المتخصصة صفتين أولهما الدقة فى تصوير الموضوع والاهتمام شبه المفرط بتصوير الحواشى والكنيات الصغيرة وثانيهما الاتزان والموضوعية فى التصوير والبعد نوعا ما عن التهويل والفنتازية التى كانت متبعة فى الاستشراق فى الجيل السابق عليه .

ولد لودفيج دويتش فى فينا عام 1855 ودرس فى أكاديمية فيينا للفنون الجميلة ومارس بعض الأعمال الفنية فى النمسا والتى لم تبق لنا منها غير بورترية واحد مشكوك فى نسبة له فى مخازن متحف قصر البليفيدير النمساوى، ثم رحل فى منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر لقلعة الفن التشكيلى العتيدة باريس وتتلمذ على يد جون بول لورينس أحد عتاة تصوير المشهد التاريخى والذى انعكس أسلوبه بشكل واضح على أسلوب تلميذه لودفيج، ونستطيع أن نقول بكل أريحية أن لودفيج دويتش قد حول المشهد التاريخى لدى جين بول لورينس لمشهد أستشراقى مع مراعاة مسألة الدقة التى كانت أهم ما يميز أعمال لورينس ثم تلميذة لودفيج فيما بعد .

بدأ لودفيج إرسال الرسوم لصالح الدوريات والمجلات فى الموضعات المتخصصة ولاقى رواجا كبيرا، مما دفعه أن يعرض أعمالة فى صالون جمعية الفنانين الفرنسية ما بين عامى 1879 و 1883، وكانت فى هذه الفترة بدأت بذرة الاسشتراق تنمو داخل لودفيج مما دفعة وبشكل مصيرى الارتحال إلى القاهرة عام 1883، وقضى هناك فترة طويلة ما بين 5 سنوات او أكثر وحتى أن عاد لباريس عاد فزارها مره أخرى فى زيارات قصيرة .

علينا أن نفند بعض أعمال لودفيج دويتش حتى نقرب للقاريء وجهة نظرة فى الاسشتراق وقبل أن نشرع فى ذلك علينا أن نؤكد أنه بالرغم من عدم انتفاء الجانب الفانتازى بشكل كامل عند لودفيج وهو جانب لا غنى عنه فى أى عمل فنى إلا أننا نجد أن لودفيج من أهم المسشترقين أن لم يكن أهمهم الذين أولوا للواقعية أهمية كبيرة فى أعمالهم وما علينا إلا أن ننظر لمجموعة من أعمالة حتى نستشف ذلك بكل سهولة فمثلا لوحته الشهير – المصلى – والتى تمثل رجلا واقفا يستعد للصلاة فى خلوته نجد ان اللوحة التقطت لحظة درامية حركية روحية فيها الكثير من العبقرية فالمصلى منتصبا يستعد للصلاة أى لحظة النية للصلاة ونجد أن اهتمام لودفيج بتفاصيل الوجه وتعبيراته التى توحى لنا بالحالة النفسية لرجل على وشك الدخول فى حالة الصلاة والعبادة ونجد أن لودفيج أيضا تلافى أخطاء سابقيه فصور حركة الصلاة مضبوطة مع واقعية المشهد فالرجل ناظر لموضع السجود وأمامه المصحف على الحامل كعادة المتدينين وبجانبه وضع الخف والعصاة كأحسن ما يكون التصوير فى المشهد التشكيلى . وليس غريبا أن نقول أن العديد من المستشرقين لم يهتموا بتعابير الوجه والحالة النفسية فى الشخوص بل اهتموا بالمشهد الاسشتراقى ككل لإظهار الجوانب الفانتازية التى يرونها فى الشرق من نموذجهم الاختزالى كما قلنا قبل ذلك لكن لودفيج أظهر بجدارة أن الدقة فى تصوير تعابير الوجه والحالة النفسية والحركة الدرامية فى المشهد التشكيلى الاسشتراقى أضافت له عمقا وواقعية جعلت منه قيمه تاريخية بجانب انه قيمه فنية كبيرة وذات ذوق حقيقى لا يهتم بالشكل على حساب المضمون.

نحا لودفيج لأن يكون له علامته وبصمته الخاصة فأخذ الاسشتراق مأخذ الجد ومن ثم ظهرت عنده مسألة تأصيل الوجوه بمعنى أن وجوه الشخوص عنده أقرب للتطابق مع الوجوه الحقيقية للمصرين من حيث لون البشرى الأسمر أو الخمرى، ومن حيث تفاصيل الجمجمة التى تدل أثنولوجيا على جنس الشخص وظهر هذا جليا فى لوحته الجامع الأزهر والتى يصور فيها مجموع كبيرة من الرجال يجلسون فى أوضاع وأحوال مختلفة فى صحن الجامع الأزهر، وهذه اللوحة تبين مدى تمكن لوديفيج دويتش فى تصوير المجموعات دون أن يفقد دقة تصوير كل شخصية مع وجود تواتر درامى أكثر من رائع فى تصوير كل مجموعة من مجموعات الرجال داخل صحن الأزهر والذى يغلب عليهم أنهم يتدارسون كما قلنا الوجوه مصرية أصيلة بنسبة كبيرة، وهذا ما لم نجده عن سابقيه من جيل المستشرقين الذى نجد أحيانا وجوههم اوربية أو بلقانية فى ثياب شرقية مما رسخ لعالمهم الفنتازى دون الواقعى وهذا ما تلافاه لودفيج كما رأينا.

تعتبر لوحته خروج المحمل من أهم الأعمال التى قدمها فى عالم الاسشتراق أن لم تكن اهمها فى تاريخ الفن الاسشتراقى كله أولا لأنها فريدة فى بابها وموضوعها، وتنم عن تعمق حقيقى فى المجتمع المصرى وعاداته الضاربة فى القدم فموكب المحمل أو خروج المحمل هو الموكب الرسمى التى كانت تخرج فيه كسوة الكعبة الشريفة التى تكفلت مصر بها وبصناعتها الشديدة الدقة منذ ما قبل عصر المماليك وحتى النصف الأول من القرن العشرين وكانت تخرج فى احتفال مهيب يتقدمه الأعيان والشخصيات المهمة ويسير فيه رجال الدين ثم عامة الشعب والدرواويش ويعتبر لودفيج دويتش قد قدم إبداعا استثنائيا فى هذه اللوحة لموضوعها المميز كما قلنا ولواقعيتها الواضحة فنجد المحمل فى الخلف وعلى الجوانب المشاهدين من عامة الشعب والذى تبدو وجوهم مصرية بشكل أكثر من واقعى ثم الأعيان يسيرون متقدمين المحمل ويسبقهم الدراويش ونلاحظ أن شخصية الدرويش فى مقدمة اللوحة أصبحت فيما بعد نموذجا أقتبسه الفنانين بعد لودفيج و كلما صوروا هذا الشخصية نجد فيها روح لودفيج ، الأهم من ذلك أن لودفيج تفوق على ذاته وتقنياته فى هذه اللوحة بحيث أبتعد فيها عن التصوير الواقعى بشكل جزئى وأتجه للانطباعية المقننة وخصوصا فى الجزء الأعلى من اللوحة حيث تبدو انطباعيته كلما اتجهنا لأعلى بشكل كبير وواضح .

حصل لودفيج على اللوجيون دونير وسام جوقة الشرف من الحكومة الفرنسية وحصل على الميدالية الذهبية فى معرض العالم عن أشتراكة فى الجانب النمساوى للمعرض عام 1900 وتوفى عام 1935 والملاحظ انه كان منسيا فترة طويلة حتى بدأت فى العشر سنين الأخيرة لوحاته يزيد الطلب عليها فبلغ أحداها 22 مليون يورو .