السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
هكتور بريليوز بين الرومانسية المفرطة وصدمة القالب الموسيقية

هكتور بريليوز بين الرومانسية المفرطة وصدمة القالب الموسيقية

يعتبر الصراع الكبير الذى نشأ فى الموسيقى بعد الحقبة الكلاسيكية مباشرة والتى انتهت بوفاة بيتهوفن هو صراع تكنيكى يعبر عن الصدام بين الصنعة والإلهام، أو بمعنى أكثر دقة بين موسيقى البرنامج وموسيقى التدفق الطبيعى والإلهام الذاتى وبشكل بسيط يعتبر صراعا أيضا بين الموسيقى التى تحاول أن تنتهج التعبيرية من خلال برنامج مسبق معتمد على نص أدبى درامى أو شعرى وبين الموسيقى التى تتخذ الموسيقى ذاتها إلهاما وتدفقا طبيعيا يأتى من الذات دون برنامج مسبق وهذه هى أزمة الموسيقى الفرنسى الكبير والذى ينتمى إلى المدرسة الرومانسية فى بدايتها «هكتور بريليوز» والذى ثار حوله جدل نقدى ضخم لربما أكبر من موسيقاه نفسها والتى تعتبر إلى حد ما متنازعة بين النقاد بشكل كبير، حيث انقسم النقاد لأكثر من فئة بعضها مؤيد لبريليوز ومعترف بعبقريته وبعضا ناكر لذلك وناعته بالتكلف وفريقا آخر يعتبر بريليوز موسيقى موهوب لكنه له سقطاته التى كانت نابعة من مثاليته الرومانسية، ومن ثم لا نستطيع أن نسير على هدى فئة واحدة من هؤلاء النقاد حتى ندخل لعالم بريليوز بشكل صحيح، ومن ثم علينا أن نعرض لهؤلاء جميعا بشيء من التفصيل حتى نستطيع تذوق المزاج الموسيقى لهكتور بريليوز .



علينا فى البداية أن نفرق بين محاولات بريليوز فى تحويل الموسيقى من شكلها المعهود والذى يعتمد على صنعة تخرج من ارتباط الآلات ودمجها بشكل موسيقى بحت حتى نخرج بالشكل الموسيقى الممتع والمثالى إلى موسيقى تنطلق من خلال وضع برنامج مسبق فيما يعرف بالتجسيدية النغمية أو تحويل الأفكار الأدبية والشخصيات لموتيفة موسيقية داخل العمل الموسيقى على سبيل المثال. وعلينا أن نفرق بين محاولاته تلك وبين محاولات الألمانى ريتشارد فاجنر والذى كان معاصرا لبريليوز أيضا حيث كانت محاولات فاجنر أكثر قبولا وأكثر نجاحا من وجهة نظر كثير من النقاد لسببين أولهما: أن فاجنر أنغمس بشكل كبير فى الإشكالية الدرامية الموسيقية وركز على الجراند أوبرا من وجهة نظره هو وكان يتمتع فى ذلك بحماسة أضعاف حماسة بريليوز وثقافة موسيقية فاقت بالطبع ثقافة وتعليم بريليوز، والسبب الثانى أن فاجنر عبر عن الذوق الألمانى الصارخ والذى تميز باندفاع فى المسائل البطولية والانغماس فى أساطير الأدب الشعبى البطولية الألمانية حتى أن فاجنر أصبح فيما بعد الرمز الحقيقى لعظمة الرايخ الثالث إبان الفترة النازية على الرغم أنه كان قد رحل عن عالمنا بنصف قرن تقريبا قبل تأسيس الرايخ الثالث .

لكن على الرغم من وجاهة ما يشاع عن تفوق فاجنر على بريليوز فى مسألة موسيقى البرنامج المسبق ونجاحه من الناحية الدرامية إلا أن الكثيرين من المولعين بفاجنر كانو حذرين بدرجة كبيرة بل واكتشف حتى محبى فاجنر أنه كان يستلهم أو حتى يقتبس من موسيقيين سبقوه سواء فى فترة الباروك أو فى الفترة الكلاسيكية، وهذا أيضا هو نفسه ما حدث مع بريليوز والذى وجد أيضا مشجعين وعشاق لموسيقاه لكن بشكل كبير من الحذر ربما بدرجة أكبر من الحذر مع فاجنر .

تمثل سيمفونيات بريلوز صراعا مؤثرا بين العقل والغريزه وكانت مقاصده الموسيقية فيها تفشل بشكل غريب أو تتحول للدنو بسبب عجزه عن التخلص من الصيغ الموسيقية الموروثة التى كانت تعتبر غير مقبولة فى عصره، والسبب فى ذلك هو أنه كان يحاول فرض أفكار درامية أو شاعرية على البناء الشكلى المحكم للموسيقى، وكانت النتيجة أنه لم يحالفه الحظ فى أغلب الأحيان وكان أيضا فى خلال ذلك يرتد بأساليبه الموسيقية إلا ما قبل الكلاسيكية وخصوصا فى السيمفونيات والسوناتات حتى أنه أحيانا اقتبس الأسلوب القديم لمدرسة مانهايم .

ودعنا نشرح شكل أبسط كيف كان أسلوب بريليوز الذى قيد من خلاله طاقات موسيقية كبيرة كان يستطيع أطلاقها ، كان بريليوز يحدد عنوان عملة الموسيقى سابقا كأن يسميه مثلا – الطرواديات – ومن ثم يجبر نفسه بشكل كبير أثناء تأليفه العمل الموسيقى على محاولة تخيل الشخصيات الدرامية وصفاتها وحركاتها وكيف تتصرف حتى ولم يكن العمل دراميا (مثل أوبرا أو مشهد مسرحى مثلا) وكان هذا بالطبع يجبره على ارتدادات موسيقية خالفت قواعد وقوالب موسيقية مما أضعف الانطلاق الهارمونى عنده، ومع ذلك وكى نكون منصفين فأن هناك أجزاء فى أعماله أو أعمالا كاملة تعتبر آية فى الجمال الموسيقى وتعبر عن جمال النغم فى ذاته والأمثلة كثيرة منها مثلا (سبت الساحرات) و(مارش الأعدام) فى السيمفوينة الفانتازيه كذلك مقطع (الملكه معاب) فى روميو وجوليت كذلك معظم ما قدم فى عملة الشهير (لعنة فاوست) لقد رفعته هذه الإبداعات إلى مصاف الموسيقيين النابهين رغم أضطراب الفكرة الموسيقية عنده .

أن الصراع الرومانتيكى داخل شخصية بريليوز قد أثر موسيقاه على بشكل كبير أحيانا على نحو سلبى وأحيانا على نحو إيجابى لكن بشكل عام كان هذا الصراع الرومانتيكى ينبع من داخل نفسه وظروف حياته التى تماثلت على نحو رومانتيكى أكثر من اللازم وربما نستطيع أن نطلق عليها – االامعقول الرومانتيكى – أو المثالية الرومانتيكية التى أصتدمت فى كل لحظه فى حياته بصخور الواقع الصلبة والمريرة وهناك مواقف كثيرة تثبت لنا أن موسيقى هيكتور بريليوز كانت انعكاسا للصدام بين رومانسيته المثالية وبين واقعه الصعب فلم يكن هذا الطفل الذى ولد فى جنوب فرنسا وتأثر كثيرا بالأدب الرومانسى وخصوصا بأدباء حقبته مثل فكتور هوجو الروائى الفرنسى الكبير لم يكن يستطيع أن يصبح هو نفسه هوجو الموسيقى كما هوجو هو الرومانسى الأكبر فى الأدب ولعل ولع بريليوز بالأدب الرومانسى كان سلاحا ذو حدين، حيث قاده للنجاح فى أعمال موسيقية بعينها وقاده أيضا للفشل فى أعمال أكثر من ذلك، كانت حياته أيضا فى ذلك الإطار فلقد وقع وهو صغير فى حب فتاه تكبره سبعة أعوام حبا من طرف واحد ومن مسافة بعيدة حيث التقى بها مره واحدة فى فصل موسيقى وقادته هذه اللعنة الرومانسية أن يحيا هذا الحب مرة أخرى فى سنوات حياته الأخيرة.

مرة أخرى تتبع بريليوز هذه اللعنه الرومانسية حينما يقع فى حب ممثلة انجليزية تدعى هاريت سامبثون تقوم بدور جولييت فى مسرحية روميو وجوليت لشكسبير ودور أوفيليا فى مسرحية هاملت، وكانت تعمل فى فرقه انجليزية جاءت لباريس لعرض المسرحية وظل يهيم بحبها أربع سنوات دون أن تعلم حتى انتهى هذا الحب بالزواج فى نهاية الأمر لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد فشل زواجهما فشلا ذريعا وظلت مصدرا لآلامه طيلة فترة زواجهما وكان السبب فى ذلك أنها عشق فيها المثال وليس الواقع فكان يتخيلها جوليت أو أوفيليا فى الواقع، وهذا أمر مستحيل بالطبع فهى فتاة عادية وربما أقل من العادية وهكذا أصابت بريليوز عقدة الصدام بين المثالية والواقع أو ما يعرف بأزمة بجماليون وأن كانت أزمة بجماليون قد لازمته فى حياته العاطفية فلقد لازمته بشكل أكبر فى حياته الموسيقية وحامت حول إبداعاته.

تعتبر السيمفونية الفانتازية أو ما يسمى بالسيمفونى فانتاستيك  أهم أعمال بريليوز والتى تجلت فيها نظرية بريليوز الموسيقية بنجاح، وقد قام بيرليوز بكتابتها عام 1830 لأوركسترا كبيرة الحجم بعد أن استوحى فكرتها من أحداث حقيقية فى حياته، حيث يصف فيها قصة حبه للممثلة الإيرلندية هارييت سميثسون، ويعبر فيها عن اليأس وفقدان الأمل من أن تبادله هارييت الشعور نفسه، وذلك عن طريق خلقه لشخصية فنان رمزية تمثل شخصية بيرليوز الداخلية وخيالاته.

قضى بريليوز الخمس عشر سنة الأخيرة من حياته منعزلا ومتوقفا عن التأليف الموسيقى يعانى من اكتئاب وهواجس نفسية حتى توفى عام 1869 عن عمر ناهز السادسة والستون عاما .