الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 28

لغة الجينات 28

الكرامة والشرف وعزة النفس أشياء لايعرفها ولايملكها إلا أصحاب الجينات الأصلية.. الكرامة قيمة كبرى، لا يتنازل عنها إلا معدوم المروءة، من أصحاب الجينات الخبيثة.. الكرامة أن تقول: لا فى وجه احتياجاتك.. ترفض أن تكون  عبداً؛ حتى لو فى الظاهر كنت فى أشد الاحتياج  لقول  نعم.. ففى الباطن  تتحول كرامتك سيفاً قاطعا لرقبة كل من حاولوا النيل من عزة نفسك.



سيدنا يوسف فى الظاهر كان سجينا.. فى أشد الاحتياج للخروج.. وفى الباطن لم يرض أن يخرج قبل أن ترد إليه كرامته وشرفه.. رفض طلب الملك بأن يكون مستشارا ويقيم فى القصر.. لم تشغله فرحة الخروج من القبر، الذى أطبق عليه سنين طويلة... لم تبهره حياة القصر الذى فى انتظاره، عن أن يطلب التحقيق فى أمر سجنه. ليعيد له الملك الاعتبار، ويعرف الناس صاحب الحق من صاحب  الباطل.

من نعم المولى عز وجل على سيدنا يوسف وعلى كل أصحاب الجينات الأصلية.. رد «الكيد».. ففى الظاهر الكيد.. مكر وحيلة.. فعل شر من أصحاب الجينات الخبيثة.. ومن عظيم فضل الله.. أن  يكون فى الباطن خير ونعمة ونور.

«الكيد» فى حياة سيدنا يوسف فى الظاهر محنة وفى الباطن منحة.. كيد إخوته كان الطريق ليتحكم فى  خزائن الأرض.. كيد امرأة العزيز كان الطريق للقصر... كيده هو نفسه لإخوته كان الطريق لهدايتهم وتوبتهم.

فى الظاهر إخوة يوسف عاشوا فى حزن وغم وهم  لفترة طويلة بعد استبقاء أخيهم فى مصر بتهمة السرقة.. رأوه شر عظيم.. وفى الباطن كان هذا هو الدرس.. الطريق لإعلان توبتهم عما فعلوه بيوسف صغيرا.. كانت لحظة النور التى ستبدد ظلام أنفسهم ليصفح عنهم أبيهم ويوسف.

«إحسان عبدالقدوس» العبقرى الراحل واحد ممن كانت كرامتهم وشرفهم وعزة نفسهم قبل أى شىء.. فى الظاهر كاهن معبد  الحب.. كاتب رومانسى لايتحدث إلا عن الحب.. وفى الباطن كان سياسيا لا يتردد فى قول رأيه حتى لو دخل السجن.. معتدا بنفسه ولأقصى درجة.. لم يتردد فى الإفصاح عن رأيه فى أى مرحلة من مراحل حياته.

فى الظاهر يتولى رئاسة تحرير «روزاليوسف» وعمره 26 عاما.. وفى الباطن يتعرض لمحاولة اغتيال بسبب مقال عن الأسلحة الفاسدة فى  عهد الملك.

المقال الأجرأ حينها دفع أحد البكوات المتورطين فى الصفقة لمحاولة اغتياله، إذ بعث له ببعض البلطجية لينهالوا عليه بالضرب بالسكاكين على رأسه ويلوذوا بالفرار.

فى الظاهر كان صديقا لأهم الضباط الأحرار قبل الثورة يعتبرونه واحدًا منهم، جمال عبدالناصر يأتى إلى «روزاليوسف «لزيارته، ويناديه (جيمى). أنور السادات، يعمل معه فى «روزاليوسف» ودار الهلال،

وفى الباطن كان إحسان عبدالقدوس فاعلاً قبل الثورة وبعدها، وهو ما جعله يعتقد أنه حين يطرح رأيه بإخلاص على أصدقائه الثوار سوف يستجيبون له، لمعرفتهم بماضيه واستقلال رأيه وصواب رؤيته، لكنه عندما طرح عليهم رأياً لم يعجبهم، وكتب عن «الجمعية السرية التى تحكم مصر» فوجئ باعتقاله، وظل فى الحبس الانفرادى 90 يوماً.

فى الظاهر كان صديقا ومقربا.. وفى الباطن وكما  يقول إحسان عن هذه الأيام: «وحدى داخل الزنزانة بدون إنارة، ولا أغادرها إلا مرة واحدة فى الصباح إلى دورة المياه، وكان عذابى كبيراً، عذاب البعد عن أسرتى ووالدتى ومجتمع «روزاليوسف» وقراءة الجرائد».

فى الظاهر خرج إحسان من السجن، بعد أن «إتربى» كما قال له عبدالناصر نفسه.. وفى الباطن أبداً لم يفقد بصيرته.. لم يفقد كرامته وعزة نفسه فهو لم يطلب الصفح ولم يتوقف عن تبنى نفس وجهة نظره.. وأفكاره حتى لو عاد إلى السجن.

فى الظاهر وبعد ساعة من وصوله إلى البيت دق جرس التليفون، وكان جمال عبدالناصر على الطرف الثانى من الخط، يسأله: اتربيت؟ فيجيب: إذا كان الأمر خاصاً بالتربية فقد تربيت فعلاً، لكن لا أدرى ما هو الشيء الذى تربيت بسببه؟

فى الظاهر قدم له عبدالناصر دعوة للإفطار.. وفى الباطن كانت الرسالة أن يعرف المسافة التى صارت بينهما.

إحسان عبدالقدوس نفسه كتب : ذهبت فلم أجد نفسى أعامله كالماضى حين كنت أناديه (يا جيمى)، أفسح له الطريق ليتقدمنى، وأناديه (سيادتك) فى تلك اللحظة فقط أدركت المسافة بين المواطن، مهما كان لامعاً، وبين الحاكم، مهما كان صديقاً... فبعد عام واحد تم إلقاء القبض عليه ثانية بتهمة محاولة قلب نظام الحكم وظل فى السجن الحربى 3 أسابيع.

فى الظاهر ظل صديقا للسادات.. وفى الباطن وبعدما نشر مقالًا فى الأهرام انتقد فيه السادات تحت عنوان (تساؤلات حول خطاب السادات) قرر السادات عزله من رئاسة تحرير الأهرام.

«الكرامة» وعزة النفس هى الأبقى عزة النفس أن تسمو، وتبتعد عن كل من يقلل من قيمتك... أن تعرف أنك لم تخلق لتركع  إلا لرب العباد.

اعلم أن كرامتك سيف ستقطع به رقاب غرورهم.. فلولا الكرامة ما كانت خزائن الأرض.